الأحد، 21 أغسطس 2016



الخطاب القرآني والابتلاء (1):


البنية اللاهوتية في الإسلام قائمة على التوحيد، والابتلاء فيها تكمن في اللغة، إذ تعجز اللغة عن وصف المجرّدات، وأعظمها فكرة "الإله"، فاللغة تتوسل وصف هذا الإله، لكن لا تقترب ولو بجزء بسيط من حقيقته. لذا فاللغة "آيات وصف الإله" في القرآن هي من باب تقريب المفهوم، لكن فخ اللغة أوقع كثير من علماء المسلمين في حملها على حرفيتهاـ أو تأويلها. ونتج عنه منظومات عقدية كلامية من نفي أو تجسيم وحروب ألسنية وسِنانية. وللخروج من هذا الفخ وفق المنهج المقاصدي يكون كالآتي:
1- الاعتراف بأن اللغة عاجزة عن تصوير المجرّدات.
2- كل ما يتعلق بالخالق تعالى من صفات أو أسماء أو أفعال فهي من باب التقريب.
3- النظر في الواقع "الفتّان" المدهش يفيد أكثر في استشعار عظمة الخالق، من النص "الفتّان" المُبتلي.

نجد معظم الجهود صبّت في دراسة النص القرآني مع غياب نقطة (1) و(2)، في حين تمّ إهمال نقطة (3)، والتي أخذ بها علماء آخرون وتقدّموا بالعلم التجريبي. فأهملنا شرط التقدّم المادّي والشعور الروحي.


الخطاب القرآني والابتلاء (2):
يعتبر الخطاب القرآني كل ما في الوجود من ثنائيات (موت- حياة) (ألم- لذة) (حسنة- سيئة) (خير- شر) مولّدات للابتلاء، وقد استثمر الخطاب القرآني هذه السنن في ربط المخاطَب بالخالق (شكر-صبر- كفر) وتقرير أن مآلات الأمور راجعة إليه. (إلينا يرجعون، لعلهم يرجعون).
وإذا تقرّر أن الله تعالى عالم بكل الأمور قبل حدوثها مسبقًا، فلا اعتبار لفرْضية أن المرور بهذه الثنائيات المولدة "للابتلاءات" هي لمعرفة المحسن من المسيء.
غاية الأمر أن الخالق صمّم الحياة على نظام سُنني فيه الثنائيات والتعددية البشرية، فلا البشرية واحدة، ولا مستوياتهم واهتماماتهم واحدة، فينتج عن هذه التعددية وفق النظام السنني "ابتلاءات".
ومع هذا فإن القضية مركبة من نظام "حتمي" وهو الثنائيات، ونظام "اختياري" وهو الإرادة، فالحتمي يكون في "الثنائيات" فالموت مصير كل حي ولا مهرب، والألم بدرجاته والسيئات بمستوياتها واردة، وقد ترجح كفة الألم على اللذة في شخص، أو يتركز الألم في مجتمع دون غيره، لكن هذا الترجيح أو التركيز ليس من باب الحتم، بل الحتم في وجود الثنائية بحد ذاتها في الحياة. وهامش الاختيار يكون في التركيز أو الترجيح وفق معطيات القوانين والسنن.
الغريب أن غياب المنهج في فهم مقاصد القرآن جعل جلّ المسلمين يظنون أن كل ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فأعدموا إرادتهم، وصارت الحياة كأنها مسرحية، فوقعوا في العدمية؛ عدمية الحياة وعدمية الغاية من الخلق. كما أنهم في حالة الإصابة بالألم أو السيئة صبّروا أنفسهم، وظنّوا أنهم محسنون في هذا. (إذا أصابه ضراء صبر فكان خيرًا له)، والحق أن الصبر يكون فيما اكتسبه الإنسان من ضرر بعد محاولات تجنّبه، ويتبعه تفكير في التخلّص من آثاره. لا الرضا به والقعود عن صرفه.
والأغرب أن بعض المسلمين يرى أن غير المسلم إن أصابته وفق القوانين سيئة يكون من باب العقوبة. في حين إن أصابت المسلم سيئة فيكون من باب "الابتلاء"!!

إن القوانين والسُنن لا تحابي أحدًا، فهي قوى غير عاقلة، لا تميّز بين مسلم فتخدمه (خير)، أو تتجنّبه في حالة (شر)، ولا تنتقم من غير المسلم. والمطلوب منّا مقاصديًا دراسة هذه القوانين واستثمارها في خدمة البشرية بما يحقق العدالة والرفاهية، وربطهم بالخالق تعالى.



الخطاب القرآني والابتلاء (3):نظام "الإلهام" و"التيسير"

من أعظم مظاهر الثنائيات في القرآن الكريم الحتمية نجدها في سورتي (الشمس والليل)، فالحتمية تتمثل في نظام الإلهام (الفجور- التقوى)، فالنفس البشرية المفردة لديها قابلية الاستقبال والاستجابة لكلا الثنائيتين. وهامش الإرادة يكون في (التزكية- والتسدية). "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَ‌هَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". الشمس: 8-10.

فالقانون القرآني مبني على "الهدى" ابتداءً ومنتهٍ "بالرجوع" مآلاً إلى الخالق. وهـذا هو القانون الحاكم الحتمي، لكن هناك نظام "التيسير" الاختياري، وهو المعوّل عليه ففيه هامش إرادة، وهو المؤثر في مآل الإنسان في الدنيا وفي الآخرة بحسب قوانين كل منهما.

"فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُ‌هُ لِلْيُسْرَ‌ىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُ‌هُ لِلْعُسْرَ‌ىٰ * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَ‌دَّىٰ * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْـهُدَىٰ * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَ‌ةَ وَالْأُولَىٰ". الليل: 5-13.

قد يغلب على ظن أحدنا أننا نعيش في مجموعة خيارات حتمية، وليس لأحدنا يدٌ في المسير ولا المصير. لكن في ظل القراءة المقاصدية نجد أن المسير والمصير تتشكل معادلته من الآتي:
إرادة إنسان واعٍ + علم الإنسان بالقوانين= حياة طيبة.

فالإنسان مزوّد بنظام (الإلهام) الحتمي، وبنظام (التيسير) الاختياري. وبتفاعلها يكون بلاء الإنسان، بقدر إرادته وعلمه بالقوانين.
أخيرًا فإن الخطاب القرآني يرتكز على (1) توكيد "الخالقية"، (2) ويولي الإنسان إرادة حقيقية،(3) ويدعو إلى العلم والبحث والنظر في سبيل تحقيق حياة طيبة لكل البشرية. وفي غياب أحدهما، أو نقصٍ في أي طرف من هذه المرتكزات الثلاثة سيؤثر سلبًا في مستوى الحياة ماديًا وروحيًا.