الخلق من "اللاشيء"
يتحدد
مفهوم الخلق قرآنيًا بحسب سياق الآية الوارد فيها اللفظ. وإن كان الأصل
"الخلق" في اللغة يعود على معنى التقدير. فمثلاً قوله تعالى:
"وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا". الفرقان: 2.
فـ"الخلق" هاهنا لا يعني التقدير.
- خلق الإنسان:
خلق من تراب، من ماء، من
الماء، من طين، من سلالة من طين، من طين لازب، من صلصال، من نطفة، من نطفة أمشاج،
من ماء مهين، من ماء دافق، من علق.
- خلق الجانّ:
من مارج، من نار، من نار
السموم.
فالملاحظ
أن خلق الإنسان والجانّ يعتمد على مكوّنات أساسية (أشياء مخلوقة)، الماء + التراب
لخلق الإنسان، والنار لخلق الجانّ.
يأتي السؤال: كيف تمّ خلق هذه المكوّنات الأساسية؟
والإجابة القرآنية هي: من "اللاشيء".
قال تعالى: "قَالَ
كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ
وَلَمْ تَكُ شَيْئًا". مريم: 9. وقال: "أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ
أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا". مريم: 67.
لكن قوله تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ"؟!. الطور: 35.
ففي هذه الآية دليل على
أن خلق الإنسان قائم على "شيء"، وهذا الشيء هو الماء والتراب. وهم
مخلوقات(*). ولا بدّ أنها خُلقتْ من "لاشيء". فالمحصلّة هي أن الإنسان
مرّ في مرحلة "اللاشيئية" وليس العدم كما هو السائد، ثم مرّ إلى مرحلة
"الشيئية".
إذ
ثمّة فرق بين "اللاشيء" و"العدم"، فالشيء هو الحادث والمحدود
والممكن الوجود أو موجود بالفعل، لكن "العدم" هو شيء كان موجودًا
فانعدم، أما "اللاشيء" فهو نقيض "الشيء". فالخلق قرآنيًا إنما
هو من "لاشيء" لا من "العدم".
أما
قوله تعالى: "فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ". المؤمنون:
14.
فإن
مجال الآية الكريمة جاء في تقرير أن الله تعالى أحسن المقدّرين، والمقدّرون دونه
تعالى كُثر، فهم خالقون بمعنى "مقدّرين" لكنه تعالى هو أحسنهم. وللسياق
سلطة على المعنى كما هو معلوم.
لقد جاء التحدّي بالإتيان بخلقٍ ما من "اللاشيء". قال
تعالى: "أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ". الواقعة:
59.
وجعل
هذا المدخل أساسًا لنسف مبدأ اتخاذ شركاء لـ "الخالق" تعالى قال تعالى:
"أَمْ جَعَلُوا لِلَّـهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ
الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ". الرعد: 16. فعلى من يدّعى أنه شريك لله تعالى أن يخلقَ
"كخلق" الله تعالى وهذا مُحال. وعليه فإن هذا المدعي لا استحقاق له فيما
يزعم.
أما
قوله تعالى: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ". آل عمران: 59.
فالآية
تقاربُ بين خلق آدم وخلق عيسى عليهما السلام، فآدم كما هو واضح خُلق من تراب،
والمراحل التي بيّنتها باقي الآيات في سور القرآن الكريم، أما خلق عيسى فخلقه لم
يكن من تراب، إنما تكوّن حملاً في رحِم أمّه مريم عليها السلام قال تعالى:
"فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا
الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا
وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا". مريم: 22-23.
فعيسى
عليه مرّ في مرحلة جنينية، وقفز عن مرحلة الترابية والطينية والصلصالية، فهو
كخلقنا نحن، لكن الفارق الوحيد هو أنه من غير وجود الأب.
ووجهة
المقاربة هو أن خلق آدم وعيسى عليهما قد توجهّت الإرادة الإلهية لخلقهما على نحو
غير مسبوق، فآدم خُلق على نحو جديد من غير والديْن. قال تعالى: "إِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ". ص: 71، وقال
تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن
صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ". الحجر: 28. "وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ". الحجر: 26.
وعيسى
عليه السلام خُلق على نحو غير مسبوق قال تعالى: "قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ".
آل عمران: 47.
لذا فإن مركب [كُن فيكون] لا يعني اللا مراحلية ولا اللازمن فآدم
وعيسى عليهما السلام مرّوا في مراحلة خلقيّة قضت أزمانًا معيّنة. ومعنى هذا
المركّب أن الإرادة الإلهية تتوجه نحو موجود غير مسبوق(**). قال تعالى: "إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ".
النحل: 40.
بوركتم
جميعًا
ولكلّ
مجتهدٍ نصيبٌ
-------
(*) الماء والتراب أشياء: [خالق كل شيء]: قال تعالى: "اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ". الزمر: 62. وانظر أيضًا: الأنعام: 102، الرعد: 16، غافر: 62.
(**) جزء من كتابي [نظرية الذي خلق].