الاثنين، 25 سبتمبر 2017

أسئلة تفتح أسئلة أعمق

يسعى الإنسان بدافع الفضول إلى التساؤل عن أشياء كثيرة، والتحليل النفسي لذلك هو محاولة الإنسان إثبات معرفته للأشياء -والأسرار- أمام أقرانه. فهو محاولة إثبات معرفة لمعلومة لغيره. أو توظيف هذه المعلومة لخدمة مآربه وقد يكون منها -فضح أسرار غيره-.
لكن هناك بعض التساؤلات المقلقة التي لا تعطي المرء رصيدًا معرفيًا يتفاخر به، ولا مجالاً لاستغلاله لتحقيق مآربه، بل هي تساؤلات في بطن تساؤلات لا تجد لها إجابات شافية. فهنا هذه المرة هو محتاج لمعرفة تشفي غليله، وتُريح قلقه.
- لماذا خُلقنا؟
يقدّم الدين وأسّه القرآن إجابات نصوصية صريحة:
1- "إلا ليعبدون".


وهنا يفتح تساؤل جديد:

- لماذا نعبد الله؟ هل هو محتاج لنا؟
- الجواب: بالتأكيد: لا، ليس محتاج لنا.
وهنا إذن لا بد أن مفهوم "العبادة" مخالف لما هو سائد.


2- "
ليبلوكم أيكم أحسن عملاً".


وهنا يفتح تساؤل جديد:
- هل الله لا يعلم أيّنا أحسن عملاً؟؟
- الجواب: بالتأكيد يعلم.
وهنا إذن لا بد أنه خلقنا لمقصد آخر.


والنتيجة حتى اللحظة أن الخالق ليس محتاجًا لنا، ولا هو جاهل بنا.
وإذا وقفنا على القراءة الحرفية فسيظهر لنا أن الخالق محتاج للمخلوقين، وأنه جاهل بهم وحاشاه.
وإذا نظرنا إلى القرآن نظرة معمّقة فإن الإجابة على التساؤل (لماذا خُلقنا؟) لن نجد إجابتها صريحة. بل سنستنبطها استنباطًا.


فخلق الإنسان إنما هو اختبار لطائفة من الملائكة ظنّت أنها حازت العلم الكلي، فرأت أن لا داعي لهذا المخلوق الجديد، وأنه سيُفسد ويسفك الدماء.

والملاحظ قرآنيًا صدق مقولة هذا النفر من الملائكة، فقد سُفك الدم مبكرًا (قصة ابني آدم).
لكن التعليل الآلهي هو (أنه يعلم ما لا تعلمون).
والنتيجة المسبقة والمعلن عنها: (أن أكثر الناس في هلاك). 
فهل كان النزاع بين علم الله وعلم ملائكته المقربين مرتبطًا
بأي الفريقين أعلم:
هلاك الكل (الملائكة)، أم بهلاك المعظم (الله)؟
الإنسان وفق النظرة القرآنية المصرّح بها (ليعبدون، ليبلوكم) يجعل من الإله ناقصًا حاشاه، ووفق النظرة الاستنباطية يجعله إلهًا متفردًا بالعلم.


حتى اللحظة لا يقدّم القرآن إجابة شافية لسؤال (لماذا خُلقنا؟)، بل يُفضّل كثيرون عدم التعمّق في هذا، ويقفون على الحرف والنص، وهو عبادة الله ويدخل في معناها وأساسها الطقوس، وفكرة الابتلاء. ويقرّرون عدم عبثية الخلق وهذا الأخير لا خلاف فيه.

عمق السؤال يتطلب عمقًا في الإجابة، والإجابة على تساؤل (لماذا خلقنا؟) يتطلب عمقًا معرفيًا، ونحن الإنسان للأسف ما زلنا نحبو على عتبات العلم. 
وسنعرف الإجابة الشافية حينما نمرّ في حياة عالم الآخرة. فليست الدنيا في قبال الآخرة إلا مرحلة طفولة في قبال حياة الرشد.


وهنا كما ترى نلجأ إلى رمي المسألة برمّتها إلى الأمام، ويبقى الإنسان الباحث والشغوف قلقًا، لكن ما يخفّف قلقه هو اعترافه بتواضع كبير أنه قليل علم، وأنه ما يزال يبحث وأمامه الكثير ليعرف ويعلم.


الخميس، 26 يناير 2017

هل دور الرسول النبي محصور في التبليغ؟

[البلاغ المبين]:
يدلّ الجذر (بلغ) على الوُصول إلى الشيء والانتهاء إليه، وأي رسالة تحمل معلومة ومقصدًا يُراد الوصول إليه، ينبغي أن واضحة، وأن تصل إلى المخاطَب بوضوحها. [بلاغ مبين].
ومن يتدبر جميع المواضع التي ورد فيها البلاغ سيجدها في سياق رفع مسئولية الحساب عن الرسول، فإذا تمّ التولي عنه أو تكذيبه أو الإعراض عن رسالته، فإن البلاغ هو الحد المطلوب من الرسول لا يكلف أكثر من هذا في إقناع غير المؤمنين. وليس عليه بعد ذلك حساب تقصير أو تفريط.

"قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ". النور: 54.
"الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا". الأحزاب: 39.
"وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ -محمّد- بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ". الرعد: 40.
وهذا الدور [التبليغ] هو أحد المهام التي على عاتق الرسول النبي محمّد عليه الصلاة والسلام لا الوحيد:
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ". المائدة: 67.
"وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّـهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ". الأنعام: 19.
ولا يقال إن الآيات أمثال: (وما على الرسول إلا البلاغ) حصرت دور الرسول النبي عليه الصلاة والسلام بالتبليغ فقط، ذلك أن سياق أمثال هذه الآية إنما هو في رفع مسئولية الحساب على الرسول المبلّغ، لا على حصر دوره ومهامه، فمراعاة السياق مهم جدًا في فهم الدلالة.
ولا يقال أيضًا على سبيل المثال إن دوره عليه الصلاة والسلام يكمن في تبيين ما اختلف فيه الناس، بحجة قوله تعالى: "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ". النحل: 64. بل هي أحد المهام، التي تحقق مقصدًا قرآنيًا عظيمًا وهو القسط: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ". الحديد: 25.
مما سبق يظهر لنا أن دور الرسول النبي محمّد عليه الصلاة والسلام لم يكن محصورًا في تبليغ الوحي فقط، ولا تبيين ما اختلف فيه القوم، بل جاء حصر الرسل في دور التبيلغ في سياق رفع المسئولية عنهم بعد التلبيغ فلا حساب عليهم من تقصير أو تفريط.
بوركتم جميعًا

------------
التّولّي:
"فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّـهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ". آل عمران: 20.
"فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّـهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ". النحل: 82-83.
"وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ". المائدة: 92.
"وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ". التغابن: 12.
التكذيب:
"قَالُوا۟ مَآ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا۟ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلَّا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ". يس: 15-17.
"إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّـهِ أَوْثَـٰنًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّـهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَٱبْتَغُوا۟ عِندَ ٱللَّـهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُوا۟ لَهُۥٓ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا۟ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ". العنكبوت: 17-18.

"وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ؟". النحل: 35.
الإعراض:
"فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ". الشورى: 48.

في سياق الصبر والإنذار وهذا يكون في المعارضين والمعاندين من مكذبين ومعرضين:
"فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ". الأحقاف: 35.
"هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ". إبراهيم: 52.

"مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ". المائدة: 99.

التبليغ في الأصوليات من تأكيد للخالقية والواحدية وإثبات النبوة والقيَم الكبرى من عمل صالح يكون للمعاصرين للوحي ولمن بعدهم:
"قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّـهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّـهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ". الأنعام: 19.
"وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ * إِنَّ فِى هَـٰذَا لَبَلَـٰغًا لِّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ". الأنبياء: 105-106.
ومن السنن أن الرسل عليهم السلام يُبلّغون رسالة الله تعالى:
نوح: "أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ". الأعراف: 62.
هود: "أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ". الأعراف: 68. "فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ" . هود: 57. "قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّـهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ". الأحقاف: 23.
صالح: "فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ". الأعراف: 79.
شعيب: "فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ". الأعراف: 93.
محمّد: "وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ". الرعد: 40.

المطلوب من أتباع الرسل عليهم السلام أن يبلّغوا رسالة الله وهي في زماننا المعاصر القرآن وما وافقه من سُنن ومقاصد، وبهذا التبليغ يؤدّي الإنسان مسئوليته ويبقى الحساب على ربّ العباد:
"الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا". الأحزاب: 39.


السبت، 7 يناير 2017

المنهج المقاصدي في التعامل مع الأخبار: (القرآن والمرويات)


قد يكون الخبر عن أمر محسوس، ويكون التحقق منه بالتجربة والمشاهدة.
وقد يكون الخبر عن أمر مسموع، وهو قسمان: مسموع حاضر ويتحقق منه بالرجوع إلى صاحبه ومصدره. ومسموع غائب، لا سبيل إلى الوصول إليه لغياب آلة الرجوع في الزمن، ولعدم تسجيل الخبر على وسيلة من كتاب أو فيديو أو صوت.

فكيف السبيل إلى التحقق من هكذا أخبار؟
بعد هذه المقدمة المنطقية نشرع في تفكيك منظومة الإسلام من كتاب أو مرويات، ويخرج عن تحليلنا غير المؤمنين بالإسلام جملةً ومنكرو المرويات بالكلّية.

ثبت أن القرآن الكريم قد دُوّن فور نزوله، وحفظه بعض الصحابة، وكثير من التابعين، ونُسخ في قراطيس وكتب، حتى وصل إلينا بطرق سمعية متصلة (تواتر لفظي). وبطرق حسية من خلال نسخ ومخطوطات قرآنية. وكلا الطريقين لا يتطرّق إليهما الشك. ووفق المنهج المقاصدي الذي يقرّ بعد استقراء ما تم الحصول عليه من مخطوطات قرآنية وتباين القراءات القرآنية فإن هذا الاختلاف من حيث الفروش من إفراد وجمع، أو تذكير وتأنيث، أو زيادة حرف ونقصانه، لا يؤثر في مقصد النص القرآني العام.

أما الأخبار والمرويات التي نُسبت إلى الرسول النبي عليه الصلاة والسلام، فهي مرويات تصف لنا فعله أو صفاته، أو تنقل إلينا قوله أو تقريره. فقد علمِها بعض الصحابة وغابت عن بعضهم، بل ربما توهّم بعضهم وغلط في الفهم، أو نسي عند النقل. ومن له دُربة يعلم مدى تعارض المرويات عند الجيل الأول واستدراك بعضهم على بعض.
وكل هذه المرويات في حينها كانت شفاهية غير مكتوبة، وقد حثّ الرسول النبي عليه الصلاة والسلام على تبليغ مقالته ودعا بنضارة الوجه لمن بلّغها، بشرط أن يروي كما سمع، ورُبّ مُبلّغ أوعى من سامع.

لكن عند مرحلة التدوين اتبع بعض أهل العلم منهج الأسانيد، وهو معيار ذاتي، ويختلف من عالم جرح وتعديل إلى آخر، فقد يكون الراوي مجروحًا بسبب مفسَّر عند عالم وعند عالم آخر هو ثقة.
كما اعتمدوا على تقوية المروية بكثرة عدد طرقها، فظهر لديهم (الآحاد، والعزيز والمشهور، والمستفيض، والمتواتر: اللفظي والمعنوي).
وكل ذلك معتمده الإسناد وعلم الرجال.

إن التواتر اللفظي لا يمكن لعاقل أن لا يقول بحُجيته إذا توفّر على شرط الضبط، بل العقل يحيل إلى وجوب الأخذ به، فهو حق مقطوع به، لا سيما إذا اقترن بمحسوس وتعدّد الأخبار، كما هو الحال في نقل القرآن، فهو محسوس مسطور في صحف وفي كتب، ومنقول بأكثر من طريق خبري، وهذا جدير بتصديقه والعمل بمقتضاه، لكن هذا لم يحصل مع المرويات القولية إذ لم تُدوّن لحظة الورود، بل نُقلت، وبعضها القليل جدًا نقل بطرق عديدة بذات الألفاظ وهو ما يُعرف بالمتواتر اللفظي. وهو قليل جدًا، وليس فيه ما يفيد العمل. أما التطبيقات الفعلية التي تواترت جيلاً بعد جيل، فإن التواتر العملي في الجزء المتفق عليه كفيل على القطع بصحتها طالما اقترنت بأصل قرآني ووافقت المقاصد والسنن القرآنية

أقرّت المعتزلة بحجية المتواتر وإفادته العلم، ولا يتناولوه بالتطبيق إلا في حدود استدلالهم على حجية الإجماع بعدد من المرويات التي تبلغ بمجموعها المتواتر المعنوي وهو مذهب أبي علي الجبائي ووافقه القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري.
لكنهم رفضوا إدخال العقائد في دائرة المتواتر المعنوي فهي في حكم الآحاد عندهم. من مثل (مرويات علو الله تعالى، ونزوله في الثلث الأخير من الليل) ووافقهم جمهور الأشاعرة على ذلك.
ومثل مرويات (رؤية الله تعالى في الآخرة، والشفاعة، والحوض، والصراط، وعذاب القبر). وخالفهم الأشاعرة في ذلك.

وحاصل القول عند المعتزلة أن العقائد لا تثبت إلا بالتواتر اللفظي وهو القرآن وحده. وأن المرويات المنسوبة إلى الرسول النبي عليه الصلاة والسلام لا مجال لها في الاستدلال على مسائل العقيدة. (ممتاز جدًا).
أما ما يخص المعجزات التي يرى أهل الحديث أنها متواترة معنويًا فإن جمهور المعتزلة يثبتونها في الجملة عن طريق التواتر المفيد للعلم الضروري ولكنها مع الأسف لا ترقى لأن تكون حجة يُستدل بها على غير المسلمين كما يقول القاضي عبد الجبار، فالمعوّل الوحيد إنما هو على العقل والقرآن. (سقطة عقلية) ذلك أن الخبر المتواتر المحلّى بالقرائن حجة تلزم كل عاقل، لا علاقة لها بمسلم أو غير مسلم.
ومن المفارقات أن بعضهم -أبا الهذيل العلاف- اشترط للتواتر أن يكون أحد الرواة من أهل بالجنة، وهو في رأيه أهل التوحيد والعدل. (تعصّب ممقوت)!!
وبعضهم - هشام الفوطي، وعباد بن سليمان- تطرّف حتى أنكر ما تواتر من أخبار، كإنكار أم يكون علي وطلحة والزبير جاؤوا لقتال يوم الجمل!!!
يجدر بي أن أشير إلى أن قضية تصنيف المسائل وإدخالها في العقيدة لا بد له من معيار موضوعي أيضًا، ولا يصحّ مثلاً إدخال فضائل الصحابة أو الإمامة أو المهدي في باب العقائد كما عند الكتاني في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر". وغير ذلك كثير بحاجة إلى منشور بحيالها. (مهم جدًا).
أما الأشاعرة فلا خلاف بينهم في حجية الأحاديث المتواترة فهم متفقون على ثبوتها وحجيتها، لا أنهم لم يوافقوا أهل الحديث في اعتبار بعض المرويات داخلة في المتواتر كأحاديث نزوله تعالى في الثلث الأخير من الليل بل هي من دائرة الآحاد.

أما الخبر الذي لم يصل إلى التواتر (الآحاد) فقد نُظر إليه من حيث إفادته العلم إذا ورد عن راوٍ عدل ضابط، فكثير من الحنابلة وأهل الظاهر، وعند ابن حزم فإن الخبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يوجب (العلم +العمل)!!
أما معتزلة فكثير منهم وكذا كثير من الأشاعرة يرون أن الخبر الواحد يفيد الظنّ مطلقًا. ذلك أن الراوي العدل قد وقع منه الخطأ والنسيان والسهو، وورد التعارض الحقيقي بين المرويات التي رواها العدل، وإن من شروط قبول الراوية سلامتها من المعارضة.
وبعض المعتزلة والأشاعرة يرى أن الخبر الواحد يفيد العلم إذا احتفّت به القرائن. كالنّظّام وأبي الحسين وأبي عبد الله البصريين والقاضي عبد الجبار. ومن الأشاعرة كابن فورك والإسفراييني وعبد القاهر البغدادي.

لكن كثيرًا من الأشاعرة وقع في سقطة علمية وهي إفادة مرويات الصحيحين (البخاري ومسلم) والتي اتفق المسلمون على صحتها العلم القطعي، كالإمام الإسفراييني، و
كثير من غير الأشاعرة كابن الصلاح وابن تيمية وتلاميذه!!


وقد تغيّر الموقف الاعتزالي على يد القاضي عبد الجبار ومدرسته المتأخرة، فاشترط لصحة الرواية أن يكون عزيزًا لا غريبًا، ووضع أبو القاسم البلخي شروطًا لقبول خبر الآحاد:
عدم مخالفته لكتاب الله، وسنة رسول الله، وإججماع الأمة، والعقل الذي جعله الله حجته على عباده. (وكل هذه ضوابط فضفاضة).
ولم تخلُ فرقة لا من أهل الحديث ولا من أهل الاعتزال ولا الأشاعرة من قبول روايات آحادية تمدح مذاهبهم.
فالقاضي عبد الجبار يستشهد بـ: "يكون في أمتى رجل يقال له واصل بن عطاء يفصل بين الحق والباطل، وفي رواية: "واصل، وما واصل، يصل الله به الدين". وفي ذم الخصوم: "لُعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيًا".
وعند الأشاعرة يستشهد بـ: "إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله". وفي ذم المخالفين يشاركون أهل الاعتزال في مروية: "لُعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيًا".

بعد هذا الاستعراض لا بدّ لنا من تجاوز كل هذه المعايير سواءً منهج الإسناد، من حيث العدالة والضبط، أو من حيث عدد المروية، فالمعيار هو عرض المروية على الأصل الثابت الذي وصلنا بالنقل المحسوس والمسموع، وهو القرآن الكريم، لكن عبر عرض المروية على مقاصد القرآن وسننه، لا على حروفه ونصوصه.