الحروف المقطعة في القرآن الكريم
اختلفت الآراء حول تحليل هذه الأحرف، وتعددت النظريات فيها، ولمعالجة هذا الملف لا بدّ من التأكيد على الآتي:
أولاً: القرآن المجيد بلسان عربي مبين، وهذا لا يعني أن [كلّ] لفظة فيه جذرها ودلالتها من نحت القوم "العرب"، بل المعنى هو أن ألفاظ القرآن الكريم مما يتداوله القوم "العرب" وإن كان أصل الجذر ودلالته من أقوام آخرين، ومن السنن في بعث الرسل أن يكون الخطاب من لسان القوم حتى يفقهوه: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".﴿إبراهيم: ٤﴾. فالقرآن خطاب يوافق معهود العرب ومقصودهم. وهنا تثور إشكالية وهي كيف يصحّ أن يُقال إن القرآن بلسان القوم وفي نفس الوقت خطابه عالمي، والواقع أن الشعوب والأمم الأخرى لا تعرف لسان العرب؟ وقد حاولتُ الإجابة عن هذا الإشكال كما حاول مجتهدون من قبل. لمزيد تفاصيل انظر هذا الرابط:
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=10205228989788115&id=1347380720&substory_index=0
ثانيًا: أي نظرية حتى تكون مقبولة لا بدّ أن تكون متماسكة من أولها إلى آخرها، بمعنى ألا تكون انتقائية أو جزئية، وأي طرح جزئي لا يتسق مع باقي الجزئيات يغدو "تخرّصات" أو ربمّا إذا كان مقصودًا إلى "سخافة".
ثالثًا: الحروف في لغة العرب لها معانِ كما هو الحال في اللغة السريانية واللغة العربية. وهنا لا بدّ من التأكيد أنه لا دليل على أن لغة العرب هي أصل اللغات، بل ما أميلُ إليه أن اللغات منذ البداية متعددة ومتفاوتة، كما أن البشرية أيضًا ابتدأت على شكل جماعات لا من فرد واحد. وتعدّد الألسن من آيات الله تعالى في خلقه قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ". ﴿الروم: ٢٢﴾.
ولغة "العرب" من ضمن اللغات الساميّة، ومن طبيعة اللغات أن تتداخل بعض ألفاظها وتلتقي في الكثير من الدلالات،
ومن غير الممكن علميًا أن تكون كل لفظة عند "العرب" تدل على ذات المعنى عند الشعوب الأخرى من "سريانية" أو
"عبرية"، لذا أي طرح يجعل لغة معينةهي الأصل كلغة "العرب" أو لغة "الآرام" أو غيرها سيكون خطأ. إذ الخطاب
القرآني بلسان القوم لا بلغتهم، فاللسان أوسع من اللغة، فاللسان هو ما يتداوله المتكلمون وإن كان أصل بعض الألفاظ
أجنبيًا، تمامًا مثل استخدامنا للفظ "تاكسي" أو "تلفزيون" وغيرها. فهذه الألفاظ من لسان القوم لا من لغتهم.
لذا فكل تحليلٍ يجعل أصل وجذور ألفاظ القرآن المجيد من أحد اللغات حصرًا سيكون خطأ من وجهة نظري.
والتشابه اللفظي أو الصوتي لا يعني التوافق الدلالي فمثلاً "sad" التي تلفظ "ساد" لا علاقة بين اللفظين البتة، فلا يقول
أحد عاقل إن معنى لفظ "sad" أصله الجذر "ساد" ويعني السيادة، فمن يعرف الإنجليزية سيضحك عليه.
ومن المهازل قول بعض الباحثين في القرآن الكريم وهو الشيخ بسام جرار: إن كلمة "بوش" لفظة عربية يقصد
بها (بلا نتيجة)!!
فلفظ "بوش" حسب رأي اللغوي ابن فارس في مقاييس اللغة ليس من صميم كلام العرب. كما أنه ليس معناه (بلا نتيجة)
فهو وقع في المغالطات، أولاً: أصل الكلمة المتداولة بمعنى (بلا نتيجة) أصلها "تركي"، كما أن معنى بوش ليس من صميم
كلام العرب على تقدير ابن فارس، كما أن المعنى للفظ "بوش" عند اللغوين تعني [الجماعة من الناس المختلطين].
رابعًا: معاني الحروف في اللغات:
- معنى الحروف في العبرية وهي في الأصل آرامية:
قال الشيخ أبو عبد الله الأندلسي الهواري:
(الألف): الواحد من كل شيء، والرجل الذي لا زوج له، وفعل ماضٍ.
(الباء): الشيخ الكثير الجماع.
(التاء): الآنية التي تحلب فيها الناقة.
(الثاء): اللين من كل شيء.
(الجيم): الجبل الكبير.
(الحاء): المرأة المسنة والحاء قبيلة من مذحج.
(الخاء): شعر الاُست، وعرف الديك، وفعل أمر معناه: عجّل .
(الدال): المرأة السمينة.
(الذال) :عُرف الديك.
(الراء): القراد الصغير يكون مع الذباب، وجمعه راهٍ وهي شجر.
(الزاي): الرجل الكثير الأكل.
(السين): الرجل الكثير الشحم واللحم.
(الشين): الرجل الذي لا يملّ النكاح(الجماع).
(الصاد): الديك إذا تمرغ في التراب وطلب الإناث، والصاد الفرخ أيضًا، وقدور النحاس.
(الضاد): الهدهد، والمرأة الكبيرة الثديين.
(الطاء): الرجل إذا شاب ولا يشبع من الجماع، وسنام البعير ومهبط الوادي.
(الظاء): المرأة العظيمة الثديين، والإبل المقطرة.
(العين): اسم سنام الجمل.
(الغين): الإبل، والغيم.
(الفاء): زبد الماء.
(القاف)المستغني عن الناس.
(الكاف): الرجل المصلح بين الناس.
(اللام): الشجر إذا قطر، وقيل إذا تقطر أيام الربيع، وقيل الجمل ذو السنامين.
(الميم): ويقال ميم الرجل إذا أصابه البرسام.
(النون): الحوت المذكر، والدواة، والقلم، والسيف.
(الهاء): أثر اللطمة في خد الصبي.
(الواو): الجمل إذا كان ذا سنامين، وعمود الخيمة.
(اللام والألف "لا"): شراك النعل وهو الشسع.
(الياء): اسم لما فضل من اللبن في ضرع الشاة.
(يا): كلمة نداء وتلهف وتعجب.
انظر: تيمور، أحمد، طرائف من روائع الأدب، ص 236- 238.
هذا الشيخ الهواري من المتأخرين (ت: 780 هـ / 1378 م) وهو محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الهواري المالكي، أبو عبد الله، شمس الدين: شاعر، عالم بالعربية أعمى. من أهل المرية.
صحبه إلى الديار المصرية أحمد بن يوسف الغرناطي الرعيني فكان ابن جابر يؤلف وينظم، والرعيني يكتب.
واشتهرا بالاعمى والبصير، ثم دخلا الشام، فأقاما بدمشق قليلاً.
وتحولا إلى حلب سنة 743 هـ، وسكنا "البيرة" قرب سميساط ثم تزوج ابن جابر، فافترقا، ومات الرعيني فرثاه ابن جابر ومات بعد بنحو سنة. في "البيرة". من كتب ابن جابر "شرح ألفية ابن مالك". انظر: الزركلي، الأعلام، ج5، ص325.
لذا فعندي أن معاني هذه الحروف متكلف فيها. والله تعالى أعلم.
نموذج عن الأحرف السريانية:
خامسًا: تأكيد للنقطة الثانية وهي انسجام النظرية مع جزئياتها من أولها إلى منتهاها، فسأناقش محاولتين يعدّان
نموذجين جديدين:
الأول: يزعم فيه أن الحروف المقطعة من أصل "سرياني" ويستخرج دلالات هذه الحروف من معاجم اللغة العبرية.
وقد وقع في مغالطات كالآتي:
1- اعتبار أن أصل هذه الحروف "سرياني"، والواقع أنها أحرف ذات أصل عربي فـ [الر] تلفظ ألف لام را، لا كما
لفظها الباحث [أَلِر]. فالمخارج الصوتية كلية مختلفة.
2- اعتمد على موقع morfix في ترجمة بعض الحروف المقطعة وهي:
الم: وكانت النتيجة [انصِتوا]، وهو طلب الإنصات لما سيتُلى.
كهيعص: وكانت النتيجة [هكذا يعظ].
والباحث لجأ إلى فصل الكلمة في حروفها لتُعطي هذا المعنى ففصل (كه) عن (يعص) لتكون النتيجة [هكذا يعظ]!!
لكن لو وضعها كما هي ككلمة واحدة لما وجد نتيجة انظر:
3- الباحث لم يظهر رأي القاموس لما أتى على ذكره
طه: فلم تكن النتيجة كما قال [يا رجل]!!
الر: فلم تكن النتيجة كما قال [تبصّر]!!
فضلاً على أن لفظها ألف لام را، لا كما نقطها (ألِر)!!
4- لجأ الباحث إلى خدعة وهي أنه سيكتفي بالأمثلة التي قالها، تُرى لو بحثنا في باقي الحروف المقطعة وبحثنا عنها في القاموس المرموق سنجد لها معنى يوافق السياق القرآني، إجابتي بعد البحث هي: لا بالتأكيد فمثلاً:
ن: سنجد معناها في الآرامية تعني [سمكة]، وفي الآرامية المربعة "العبرية" تعني [بذرة] أو [سمكة] أو [حياة]، فما علاقة السمكة أو البذرة أو الحياة بالقلم وما يسطرون؟!
لكن لها علاقة مع آية: "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ". ﴿القلم: ٤٨﴾.
ق:
سنجد معناها في الآرامية خلف أو شمس في الأفق، وفي الآرامية المربعة "العبرية" تعني الأُذُن!! وفي القاموس لا نتيجة!
ص: سنجد معناها في الآرامية دعم، وفي الآرامية المربعة "العبرية" تعني صنّارة صيد السمك!! وفي القاموس لا نتيجة!
ومثلها: المر، حم، حم عسق، طس، طسم، المص. لا معنى لها في الآرامية ولا غيرها.
لذا تسقط هذه الفرْضية من أساسها، ومن المحزن أيضًا تنبيه بعض الباحثين (الشيخ بسّام جرّار) لصاحب هذه المحاولة بأمثلة لا تصحّ، مثل التمثيل بكلمة (بوش) وقد سبقت الإشارة إليها في هذا المقال. انظر مقال الشيخ بساك جرّار على الرابط الآتي:
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1005200356168836&id=209764045712475&pnref=story
النموذج الثاني: وهو حساب الجمّل
يعيد الشيخ جرّار فرْضياته حول حساب الجمّل ويضرب مثالاً وهو الآتي:
يقول: "سورة النمل التي تُستهِل بـ "طس" تبين أنّ حرف الطاء تكرر في السورة 27 مرة، وهذا هو ترتيب السورة في المصحف. وتكرر حرف السين 93 مرة وهذا هو عدد آيات سورة النمل، أما المجموع: 27+93= 120 فهو جُمّل كلمة نمل".اه
أقول كلامه صحيح لكن انتبهوا هنا وتذكّروا ضرورة انسجام وتماسك النظريات.
نموذج حساب الجمّل:
إنّ فرْضية الشيخ جرّار لا تنسجم مع باقي السور:
فمثلاً سورة "طه" قد تكرر حرف "الطاء" 28 مرةً، وحرف "الهاء" 250 مرةً. ومجموعهما:
250+ 28 = 278.
وحساب الجمّل لكلمة "طه"
فأنت ترى أن مجموع تكرار الحروف لم يتطابق مع حساب الجمّل لـ "طه".
ومثال آخر: سورة "ق"
تكرر حرف القاف 57 مرةً، فهل تطابق مع حساب الجمّل؟
ومثال آخر:
سورة "القلم"
حرف النون تكرر 131 مرّة، فهل حساب الجمّل لكلمة
لذا فتسقط الفرْضية أيضًا من أساسها.
كما أن حساب الجمّل خفّة وانتقائية يمارسها البعض لتوافق أفكارًا مسبّقة لديهم: وقد وجدتُ بعض الباحثين المسيحيين يقول:
في تحليل "كهيعص" الآتي:
بالرجوع إلى ما يعادل هذه الحروف بالأرقام نجد أن:
ك = 20، هـ = 5، ي= 10 ع = 70، ص = 90.
مجموعهم 20+ 5+ 10+ 70+ 90 =195
وإذا ثبتنا هذا المجموع وغيرنا الحروف بحروف أخرى تكون كلمات مفهومه مع المحافظة على المجموع السابق نصل إلى نتيجه نفهم بها الألغاز القرآنية من خلال القواعد العربية عن طريق أبجد هوز
ا=1. ل=30. م=40 . س= 60. ي= 10. ح= 8. ا=1 . ل=30. هـ=5. ي=10.
مجموعهم: 1+30+40+60+10+8+ 1+30+5+10= 195.
وبما أن مجموع الحروف القرآنية هي نفسها مجموع الحروف الأخرى فهى تساويها فى الأرقام؛ أي أن كل منهما تساوي 195 وتتساوى فى المعنى أي أن:
ك هـ ى ع ص = ا ل م س ى ح ا ل هـ ي
وهناك عدة احتمالات لنظم كلمات يكون حساب جمّلها (195) قام بها بعض الباحثين هاكم بعضها:
الإنجيل زيد به باطل
125 + 21 + 7 + 42 = 195
الله واحد وهاب بلا ابن أو آب
66 + 19 + 14 + 33 + 53 + 7 + 3 = 195
لا ابن لله ، واحد وأحد أبدا
31 + 53 + 65 +19 + 19 + 8 = 195
الله واحد أحد وهاب لا يلد أبدا
66 + 19 + 13 + 14 + 31 + 44 + 8 = 195
9 – إله أحد وهاب لا يلد أو يولد
36 + 13 + 14 + 31 + 44 + 7 + 50 = 195
هو واحد ولا أحد معه
11 + 19 + 37 + 13 + 115 = 195
الإبن عبد له
84 + 76 + 35 = 195
الله بلا ولد أو والد أبدا
66 + 33 + 40 + 7 + 41 + 8 = 195
الله أحد ولا إله إلا هو
66 + 13 + 37 + 36 + 32 + 11 = 195
ودين أحمد بوحى إلهى
70 + 53 + 26 + 46 = 195
أحمد جاء بحق وبهدى
53 + 5 + 110 + 27 = 195
المسيا أحمد
142 + 53 = 195
وكلّ يعمل بما يُوافق ليْلاه!!
أخيرًا كل محاولات العلماء السابقين من مسلمين: ممن قالوا بأن الله تعالى قد استأثرها بعلمه، أو من قال بأنها من باب دفع القارئ للبحث وحثّه على التساؤل، أو من قال إنها من نسج كلام العرب الذي تحدّاهم الله تعالى به، أو قول من قال من المستشرقين: إنها رموز تدل على كتبة الوحي من الصحابة، أو إنها مختصرات لكلمات داخل السورة أو خارجها، أو إنها إضافات وليست من القرآن، أو إنها بقايا لأسماء السور. كل هذه الفرْضيات لا تتماسك، فقد تصح في مواضع وتتخالف في أخرى. باستثناء الذين قالوا إنها من علم الله تعالى.
والذي أراه أن هذه الحروف المقطعة هي من ضمن طبقات الغيب وحلقاته.
فالخالق تعالى ذاته غيب الغيوب، لكن دلّ عليه الخلقُُ، والكونُ بدايته غيبٌ دلّ عليه الوجود، والإنسان نفسه وروحه غيب دلّ عليه جسده، والقرآن حروفه المقطعة غيب دلّ عليه ألفاظه.
فهناك حلقات غيبية في الخالق والكون والإنسان والقرآن على ذات النسق.
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ