إشكالية القرآن الكريم
حمّال أوجُه
الخلاف في فهم الآيات القرآنية لا يُسوّغ عدم الاستدلال به
لكونه "حمّال أوجُه" هذه حُجّة الضعفاء. أما الجهابذة فإنهم يشمّرون عن
ساعد الجِدّ للوصول إلى الفهم الراجح للآيات وفق معايير صارمة. مما ورد في بعض كتب التراث عبارة: "القرآن الكريم حمّال أوجه".
وقد نُسبت هذه العبارة إلى علي رضي الله تعالى عنه، فعن ابن عباس أن عليًا بن أبي
طالب أرسله إلى الخوارج فقال: "اذهب إليهم فخاصمهم ولا تحاجهم بالقرآن فإنه
ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسّنّة". انظر: السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم
القرآن، ج1، ص409، وفي كتاب نهج البلاغة
ورد: "لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمال أوجه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن
حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا". انظر: نهج البلاغة، ط5، بيروت:
دار الكتب العلمية، 2003م، ج1، ص 405. والعبارة من
حيث الإسناد في كلا المرجعين لا تصحّ. والأخذ بها مطلقًا يشكّل مطعنًا في القرآن
الكريم. فالقرآن الكريم يقرّر أنه هو الحكم بين المخاصمين والمختلفين قال تعالى:
"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً". النساء: 59. فكيف يدعو الله تعالى المتنازعين إلى كتابه وهو حمّال أوجه؟؟ لذا فالعبارة
بحاجة إلى توجيه، ويمكن الأخذ بها على أن تفسّر كالآتي:
أولاً: أن المراد بذلك هو
أن بعض المفردات القرآنية تحمل عدّة دلالات تحتملها العربية. ثانيًا: أو أن القرآن الكريم فيه مفردات يمكن أن تعطي معنىً يناسب عصرًا
ما. وتعطي نفس المفردة معنىً آخر في زمان آخر متقدّم. ومثل ذلك الآيات التي فيها
إشارات علمية كقوله تعالى: "بينهما برزخ لا يبغيان". الرحمن: 20. وقوله
تعالى: "أوَلم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها؟". الرعد: 41.
فالفهم المعاصر للآيتين مختلف عن السابق. فيصحّ أن يقال عنه (حمّال أوجه) بحسب
تطوّر الزمان واتساع أدوات الفهم. أما القول بأن
فهم الدلالات اللغوية لا يكفي لفهم القرآن الكريم، فلا بدّ للسّنّة النبوية أن
تبيّن القرآن الكريم، كما يقول البعض. فهذا قول فيه مغالطة، فهل السّنّة
فسّرت كل القرآن أو حتى بعضه إلا النزر اليسير؟؟ ثم أليست السّنة وهي كلمات وألفاظ
ومفردات حمّالة أوجه كذلك؟؟ نعم السّنّة النبوية الثابتة تفسّر القرآن الكريم لكن
بعد إثبات كونها –أي السّنة- صحيحة وذلك بعرضها على الكتاب المبين. أما القفز
إليها بحُجّة أنها صحيحة الإسناد دون المرور في فهم الآيات القرآنية بالآيات. فلا
يستقيم هذا منهجيًا. ولا يقبل أيضًا منهجيًا أن
يستدل ببعض آيات للبرهنة على قضيةٍ ما دون الإحاطة بجميع الآيات التي تتحدث عن
موضوع القضية. فالقرآن الكريم وإن تعددت الفهوم لبعض آياته لكن ينبغي أن تؤخذ جميع
الآيات في المسألة الواحدة لتعطي الفهم العام للقضية وإلا كان الفهم ناقصًا أو
مشوّهًا. فالحقيقة أن المعنى الذي تفيده مجموع الآيات في الموضوع
الواحد قد يعطي أكثر من معنى واحد. لكن هذه المعاني تصبّ في باب واحد وليست
متشاكسة. أما النظر المعتمد على جزء من آيات الكتاب سيعطي معاني متشاكسة للناظر في
أجزاء أخرى من آيات الكتاب كما احتج الخوارج بقوله تعالى: "إن الحكم إلا
الله". يوسف: 40. ونفوا أن يكون الحكم لغيره. وبذلك يصبح القرآن الكريم محلاً
للمثبت والنافي. وهنا التشاكس الذي نفاه القرآن عن نفسه: "لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد". فصلت: 42. والتشاكس دليل على عدم
الإتقان الذي يؤدي إلى البطلان.
لذا ترك منهجية النظر في جميع الآيات المتعلقة بالمسألة الواحدة يعدّ بغيًا بعد إتيان العلم وإنزال الكتاب وختم النبوة. فلا بد من تفسير القرآن بالقرآن وجمع الآيات المتعلقة بالمسألة الواحدة وفهمها في إطار عام ثم الاستعانة بالروايات التي لا تخالف القرآن الكريم.
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق