المقارنة بين المشروع الاستعماري الصهيوني ومشروع التحرر الوطني الفلسطيني
تعرّض اليهود أثناء وجودهم في إسبانيا لاضطهاد وتعذيب
مما حدا بهم اللجوء إلى مناطق أكثر أمنًا وسلامًا فانطقلوا إلى مناطق مختلفة في
أوروبا ليدخلوا في مواجهة جديدة من معاناة الشعور بالاغتراب والمنفى، وحيث إن
اليهودية ديانة غير تبشيرية وغير قابلة للتمدد فقد عانت من فكرة الاندماج التي
كانت شرطًا أوروبيًا لقبولهم مما أدى الى ظهور أشكال من الاضطهاد أثرت في نظرتهم
إلى الآخر، وبعث فيهم النظر والبحث عن حلول لهذه الاضطهادات وبدائل للإشكاليات،
فتشكلت لدى الفئة المؤثرة فيهم إذ تبلورت فكرة المنظومة القائمة على أسس قومية
لتجاوز الأزمات التي عانوا منها كمعاداة السامية، وتجنب المحاذير التي قد تنجم
فيما بعد، فظهرت نواة فكرة الحركة الصهيونية إذ بدأت تبحث لنفسها عن موقع في
التاريخ ووطن بديل عن المنفى، فأخذت الحركة الصهيونية على عاتقها محاولة بناء
الأمة اليهودية بناءً على القومية بعيدًا عن الطائفة الدينية، وطرحت برنامج الدولة
وأن تكون هذه الدولة خارج أوروبا كشرط استحقاقي للخروج من الـأزمات، فبدأت
الصهيونية بإعادة صياغة جوهر الدولة في الفكر اليهودي دونما انتظار حدث لاتاريخي
بل بإيجاد منظومة تأسيسية لدولة الحديثة، والبحث عن أرض جغرافية قابلة لتحقيق
الدولة اليهودية، بحيث تكون تلك الأفكار عن الدولة المأمولة والأرض الجغرافية
"الموعودة" تحقق البعد الحضاري لليهود، إذ رأوا أن في الدولة تثبّت
الأمة.
باشرت الحركة الصهيونية من أجل "الدولة" صنعها
دولة علمانية كمرحلة أولى تؤوي طائفة دينية وتعيد صياغتها لكن دولة أوروبية خارج
أوروبا. وقد واجهت الصهيونية في انفكاكها عن الدوغمائية اليهودية مصاعب شتى للبرهنة
على إثبات الهوية الحضارية لليهود إلا أنها استطاعت التغلب عليها بفضل التماهي
والتقاء المصالح مع الإمبريالية، ورأت الصهيونية أن التخلص من اللاسامية لا يكمن
في تغيير نظرة الأوربيين لليهود بل تغيير نظرة اليهود نحو الآخر وتحويل اليهود من طائفة
دينية إلى فكرة قومية، من جماعة مقدسة إلى أمة حديثة. ومن سخرية القدر أن
الصهيونية تكالبت لها لا عليها وصبت الأقدار خيرها في خطتها إذ توافقت الرؤية
الصهوينية مع الإمبريالية ووجدت الأرض الجغرافية ذات "البعد الديني" الذي
أضفوه عليها وتنفست أوروبا الصعداء.
وفي
المقابل عانى الشعب الفلسطيني من بداية القرن العشرين من حالات نفي إلى بقاع شتى
من المعمورة غير أنهم لسبب أو لآخر استطاع معظمهم الاندماج مع السكان الاصليين
سواء أكان في المنفى العربي أو المنفى الغربي الأوروبي أو الأمريكي، إذ لم يلعب
التباين العرقي أو اختلاف الديني دورًا في عرقلة حالات الاندماج والتعايش، إذ قيَم
الشعب الفلسطيني وديانته تسمح بالتبشير والتسامح مع الآخر. وبالرغم من أن الشعب
الفلسطيني استطاع الاندماج ولم يواجه صعوبات في التعايش مع الآخر إلا أنه لم يتخلَ
عن أرضه وحقه في العيش فيها، أذ يرى أن المشروع الصهيوني مشروع إمبريالي استعماري
غاصب، فبدأت حركة التحرر الوطني الفلسطيني في العمل على تحرير الارض من الاغتصاب
الصهيوني من خلال تبني المنهج القومي العربي إذ من واجب المواطن العربي بغض النظر
عن قطره تحرير الأرض المغتصبة والعمل على عودة اللاجئين. فبدأت في نشاطات الكفاح
المسلح ضد المستعمرات الصهيونية والتعبئة المعنوية ورفع الوعي لخطورة المشروع
الصهيوني باستثمار التراث الديني والأدبي والفلوكلوري وسواعد المناضلين.
وعودة إلى الكلام عن المشروع الصهيوني فيما يخص الشرق
المستعمَر فإن بعض مفكري الصهيونية رأوا أن الأمة ممكنة بدون الدولة من خلال إنشاء
مستعمرات زراعية في فلسطين إلا أن الفريق الآخر يرى أن هذا النشاط الاستعماري لن
ينجح دون مشروع سياسي، أما بخصوص التميز الصهيوني فيكون عن السكان الاصليين
البدائيين وعن البرجوازية الأوروبية، والمحاولة –الفاشلة- في تهويد العرب
والقيام في بعض المجازر التي سجلها
التاريخ.
قامت الصهوينية باستكشاف المواقع الجغرافية الملائمة لإقامة الوطن القومي،
فوجدوا مواقع جغرافية مهمّة فأصبغوا عليه الهالة المقدسة ثم بدأوا بترتيب الهجرات
المنتظمة، وإعداد المعسكرات وتدريب العناصر، وإنشاء مستعمرات زراعية إما غصبًا أو
شراءً.
اعتمد الصهاينة على إدخال عنصر الرعب في قلوب سكان الأصليين
والتغرير بتجارهم وساعدهم في ذلك كله الظروف الإقليمية والاستعمارية آنذاك وضعف
العرب كونهم تركة الدولة العثمانية، وقله وعي معظمهم بخطورة المشروع الصهيويني، وكل
هذه الدواعي والأدوات ساعدت المشروع الصهيوني في تثبيت قدمة وتمدده وتقدمه.
وفي المقابل تنبه قادة الحركة تحرر الوطني الفلسطيني إلى
خطورة مشروع الصهيوني فدقوا ناقوس الخطر
عبر منابرهم مثل مجلة الكرمل ومجلة فلسطين وغيرها، وقاموا بتعبئة وحشد وتنظيم
المؤتمرات للتنبيه على خطر المشروع الصهيوني، وفي الجانب العسكري ابتدأ بعض قادة
الحركة التحرر الوطني الفلسطيني بتجنيد
العناصر واستنفار الطاقات المحلية وإنشاء المعسكرات التدريبية، أما على صعيد الإعلام الخارجي فقاموا ببث الرسائل العاجلة إلى
العمق العربي للتأهب المناسب لمواجه المشروع الصهيوني، حتى حانت ساعة الصفر وبدأت
الصراعات والمعارك بين الطرفين السكان الأصليين وعناصر الحركة الصهيونية.
استطاعت الحركة الصهيونية بفضل تجهيزاتها المتقدمة
والمقدمة من الاستعمار الأوروبي أن تتوغل في مشروعها إذ نجحت في تشغيل السكان الأصليين
في أعمال الزراعة والحراسة، حيث ابتدأت بفكرة الاستيطان لتصل إلى فكرة الاحتلال
وذلك باستثمار الموجة الاستعمارية براجماتيًا.
فقدت الحركة الصهيونية تميزها نتيجة الواقع إذ انتقل
الصراع مع اليهودية إلى صراع مع الفاشية اليهودية التي حلّت مكان الصهيونية فلم
يعد بالإمكان نفي السكان الأصليين إلا بالقدر الذي كان مما سمح بنفي الفكرة ونشوء صراع جديد في حركة
سريالية.
تمكنت حركة التحرر الوطني الفلسطيني بالرغم من ضعف الإمكانياتـ
ونجحت في رفع مستوى الوعي بخطورة المشروع الصهيوني وتحريم السمسرة وبيع الأراضي،
وتكوين العناصر المقاتلة وتأسيس جبهة للدفاع عن الأرض وجلب المتطوعين العرب، واستثمار الوعي العربي القومي لتعميم خطورة المشروع الصهيوني وحشد المتعاطفين عربيًا
وإسلاميًا ودوليًا. وبالرغم من هذه الإيجابيات إلا أنه واجهت حركة التحرر الوطني
الفلسطيني صعوبات في التعاطي مع وتيرة نشاط المشروع الصهيوني إذا غابت عندها
النظرة الاستراتيجية، وتم فقد عناصر قتالية كثيرة إما لضعف الإمكانيات العسكرية أو
ضعف التدريبات والتكتيكات، وفشلوا في الحفاظ على الأرض من المصادرة والحفاظ على
الإنسان من النفي والتهجير كما فشلوا في استرداد ما تم اغتصابه، كما أن تحالفاتهم
الدولية والإقليمية كألمانيا وايطاليا اللتين لسوء الحظ خسرتا الحرب فتأخرت القضية الفلسطينية على الساحة الدولية وتراجع
وزنها.
بالرغم من الإخفاقات التي واجهت المشروع الصهيوني والتي زادت
وتيرتها في الآونه الاخيرة فإن النظرة
الصهيونية المطروحة هي الإعلان عن الدولة اليهودية على الأرض المستغلة، غير أن هذه
النظرة في المعيار الدولي غير مقبولة، وتجحف في رعاية الدولة من غير اليهود
والذي يحول دونه البعد الديمغرافي أو تقبل
فكرة تبادل الأراضي وانزياح السكان. ألا أن الحل الأمثل هو الإقرار بحق السكان
الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة لهم قابلة للحياة والتعايش والانفتاح على أساس
دولة المواطنة الحديثة.
أما من جهه مشروع التحرر الفلسطيني فبالرغم من الصعود
والهبوط والنجاح والفشل على خط الزمن في الصراع مع المشروع الصهيوني وإنجاز
بعض التقدم في المواجهة ما بين الخيار العسكري والخيار السياسي ونجاعة الأخير
وبروز بعض ثمراته في الآوانة الأخيرة، وعليه فينبغي الاستمرار والصبر على الخيار
السياسي والتمسك بالثوابت الشعب ومصالحه العليا، والمطالبة بحق القرارات الدولية
الصادرة عن الأمم المتحدة، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67 ومن ضمنها القدس
الشرقية عاصمةً، وإقامة السلام الشامل
العادل.
مما سبق نجد أن الحركة الصهيونية تقلّص طموحها نتيجة
عوامل داخلية وأخرى دولية، وما واجهته من مقاومة السكان الأصليين من رباطة الجأش
والمثابرة، لا سيّما في الفترة الأخيرة التي ارتفع فيها مستوى الإعداد العسكري عند
الجانب الفلسطيني والإخفاقات المتكررة
لاسيّما ظهور حركات مقاومة داخلية وأخرى خارجية كحزب الله. ولم يبقَ أمامهم
إلا إعادة تأهيل البيت الصهيوني، والتعويل على المجتمع الدولي والفيتو الأمريكي.
ومما يواجه حركة التحرر الفلسطيني غياب الوحدة الوطنية،
وتباين الرؤى الاستراتيجية والفعلية في مواجهة المشروع الصهيوني، مما يضعف حشد
التأييد الدولي وتأخر انتزاع الحق المصيري.
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهد نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق