تجديد الرسالة
أسمي هذه الدراسة بـ "تجديد الرسالة" وهي دراسة تجديدية لكتاب الإمام الشافعي المشهور بـ"الرسالة" إذ معظم الدراسات حوله كانت حول إعادة إخراجه من عالم المخطوطات إلى عالم الكتب، بما اعترى هذا الإخراج من جهود ومقارنات وصعوبات في تحقيقٍ وتدقيقٍ، وبعض الأغاليط في النسخ والتحقيقات، وكذلك بعض الدراسات النقدية حول الكتاب التي هي قراءة جزئية انتقائية قائمة على أفكار مسبقة تبحث في ثنايا الكتاب ما يواطئها دونما مراعاة لسياق الكلام ومقاصده.
وأرجو أن تكون دراستي موضوعية لا أتهيّب فيها عِظم الكتاب ولا الكاتب، إذ يعدّ الكتاب أحد أهم أعمدة الفكر عند المسلمين، ويعتبر الكاتب أحد أعظم علماء المسلمين. فأرجو أن تكون دراستي لبنة من لبنات تجديد الأصول الفكرية للعرب والمسلمين.
إن الكتاب المسمّى بـ "الرسالة" لم يسمِّه الإمام الشافعي بهذه التسمية، إنما أطلق عليه "الكتاب" ويغلب أنها سميّت بذلك لأنها أرسلت إلى عبد الرحمن بن مهدي (ت:198 هـ) الذي طلب من الإمام الشافعي (ت:204 هـ) أن يضع له كتابًا في مسائل.
وأصل أفكار هذا الكتاب على الأغلب كتبها الإمام الشافعي مرتين، في العراق، ثم أعادة كتابتها في مصر آخر عهده. فالذي بين أيدينا هي الرسالة الثانية أو الجديدة المصرية. وقد دخل الإمام الشافعي مصر عام 199 هـ وكتب فيها كتاب "الرسالة" الجديدة، وقد ألفها من حفظه "وغاب عني بعض كتبي، وتحققتُ بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرتُ خوف طول الكتاب، فأتيتُ ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصّي العلم في كل أمره".
لذا سيجد القارئ لكتاب "الرسالة" بعض الروايات والسنن التي لا وجود لها في كتب الستة، وقد يجد بعض الأغلاط في بعض الاستدلالات سيآتي على ذكرها. وجلّ من لا يُخطئ.
والكتاب قد أملاه الإمام الشافعي على الربيع بن سليمان (ت:270 هـ) إملاء، وشاهده: "فخفّف فقال: (علم أن سيكون منكم مرضى). قرأ إلى قوله: (فاقرؤا ما تيسر منه(. فالذي يقول "قرأ" هو الربيع، يسمع الإملاء من الإمام الشافعي فيكتب.
ويعتبر كتاب "الرسالة" أول كتاب في أصول الفقه، وأصول الحديث. وقد جمع الإمام الشافعي بين مذهب أهل الحديث وأهل الرأي ووفّق بينهما بحسب ما آل إليه اجتهاده. فلما انتهت رياسة الفقه بالمدينة لازم الشافعي الإمام مالكًا (ت:179 هـ)، ولما انتهت رياسة الفقه بالعراق إلى الإمام أبي حنيفة (ت: 150 هـ)، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن (ت: 189 هـ). فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث. كما أنه أخذ العلم من الزيدية كتفسير مقاتل بن سليمان (ت:150 هـ)، ودرس علم الأوزاعي (ت: 157هـ) ودرس مذهب الإمام الليث بن سعد(ت: 175هـ)، ، وناظر المعتزلة وجادلهم. فكان صاحب ذهنية فكرية منفتحة على أعظم آراء عصره. ما خلا علم الكلام والفلسفة واللغات!
وتحاول دراستي إعادة النظر في التوفيق بين المدرستين على اعتبار القرآن الكريم هو المرجع الأساسي، بالنظر إلى مقاصده مع مراعاة سياق ألفاظه ودلالاتها والأخذ بما وافق الكتاب من روايات. بحيث تصبح هذه الدراسة نظرة تجديدية للفكر الأصولي عند المسلمين لا تقليدية ولا إقصائية.
يقول الإمام الشافعي:
إني رأيت ركود الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يُطبِ
عاش الإمام الشافعي في عصر كانت العراق هي المركز الأهم في حواضر المسلمين، حيث مقر الخلافة، ومرتكز التحضر وملتقى العلماء من كل فنّ، إذ تميّزت بغداد في ذلك الوقت بمزيج لغوي، وعرقي، وتعدد فكري، وتمدّن وانفتاح كبير. وبرزت عدة اتجاهات تعلن موقفها من القرآن والسنن النبوية واللغة العربية، في حين أن مكة والمدينة لم تتمتع بهذا التعدد الفكري، إذ يغلب عليها آثار الصحابة والتابعين المكيين وما نقلوه من سنن وفهموه منها، والمدينة السائد فيها عمل أهلها. والذي أرساه الإمام مالك شيخ الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى.
بعد قراءة فاحصة لكتاب "الرسالة" أمكنني حصر القضايا التي تصدّى الإمام الشافعي لمعالجتها في كتابه هي القضايا الآتية:
1- عالمية الرسالة الخاتمة.
2- القرآن الكريم فيه جواب كل إشكال.
3- القراءات.
4- دعوى الإيمان بالله يكفي للنجاة.
5- دور الرسول النبي ومهامه وتصرفاته.
6- عصمة الرسول النبي عليه الصلاة والسلام.
7- اجتهادات الرسول النبي عليه الصلاة والسلام.
8- قضية الفرض في الكتاب والسنن؟
9- قضية رواية السنن.
10- ترتيب الأدلة.
11- الناسخ والمنسوخ.
12- استقلال السنة بالتشريع.
13- الإلزام بالسنن.
14- الحلال والحرام.
15- الأصول: (الأمر للوجوب، النهي للتحريم، الكلام على الظاهر).
16- اللسان العربي.
17- الترادف والاشتراك.
18- اللفظ العام قد لا يفيد الاستغراق.
19- دلالات الأمر والنهي.
20- عصمة الصحابة.
21- الإجماع.
22- القياس.
23- الاستحسان.
والناظر في هذه القضايا يعلم أنها ما زالت محلّ جدلٍ ونقاش حتى يومنا هذا، فقضية عالمية الإسلام تشكّل إحدى كبرى الإشكاليات، وما يدخل فيها من أن القرآن فيه حكم كل شيء! وكذلك قضية القراءات القرآنية المختلفة، ومسائل اللسان العربي، ومما برز على ساحة الإعلام قضية الاكتفاء بالإيمان بالله تعالى سبيل للنجاة، ومن القضايا المثارة أيضًا ثبوت السنن وفهم دلالاتها، ما بين استقلال أو اتباع للكتاب، وما بين منكر لها بالمطلق، ومنها بيان مهام ومقامات الرسول النبي عليه الصلاة والسلام، فالإشكاليات التي سادت في عصر الإمام الشافعي وتصدّى لها بحسب ما حصّل من علوم وآل إليه اجتهاده، وما عايشه من واقع، يبدو أنها ذات الإشكاليات المعاصرة التي ينبغي لنا أن نحاول معالجتها وتقديم رؤية متماسكة الأركان.
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق