عالم الموت
أولاً: عالم [الموت] أسبق من عالم [الحياة]
عالم [اللاشيء] أسبق من عالم [الأشياء]
"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" الملك: 2.
ثانيًا: الموتُ موتان:
أ- الموت الأول: في [عالم "اللاشيء"]. وهذا النوع لم يذقْه أحدٌ لعدم وجود النفس بعدُ، وهو من عالم الغيب السابق:
"كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ ((أَمْوَاتًا)) فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". البقرة: 28.
"وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟!! * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا؟؟". مريم: 66-67.
"هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا". الانسان: 1.
ب- الموت الثاني: في [عالم الدنيا] وهذا تذوقه كل نفس.
"كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ ((يُمِيتُكُمْ)) ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". البقرة: 28.
"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ". آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57.
* وقد يموت بعض الأشخاص في [عالم الأجنّة]:
"اللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ ((وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ )) وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ". الرعد: 8.
* وهناك حالات استثنائية ذكرها القرآن المجيد ممن ماتوا ورجعوا إلى الحياة الدنيا:
1- "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّـهُ ((مُوتُوا)) ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴿البقرة: 243.
2- "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ *ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ ((مَوْتِكُمْ)) لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". البقرة: 55.
3- "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَـٰذِهِ اللَّـهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّـهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ". البقرة: 259.
ثالثًا: الحياةُ حياتان:
1- الحياة الأولى في [عالم الدنيا]:
"كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا ((فَأَحْيَاكُمْ)) ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". البقرة: 28.
* والناس يتفاوتون في الأعمار كما هو معلوم ومشاهد: في [عالم الدنيا]:
"ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا". الحجّ: 5.
"ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ". غافر: 67.
2- الحياة الآخرة [عالم الآخرة] وهي من عالم الغيب المستقبلي.
"وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ". العنكبوت: 64.
"كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ ((يُحْيِيكُمْ)) ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". البقرة: 28.
*وفي [عالم الآخرة] هناك جنّة ونار
فأما أهل الجنة فلهم حياة "الخلود الأبدي" في نعيم وصفه جاء في القرآن المجيد من باب التقريب.
فهم لا يذوقون الموت في الجنّة إلا ما سبق من موت في [عالم الحياة الدنيا]:
"((لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ)) إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ". الدخان: 56.
ولا صحّة لمن زعم أن لأهل الجنة موتًا في الجنة (أي أنّ أهل الجنة يخلدون ولا يموتون فيها إلا ما كان من موتةٍ أولى. وهذا يعني أنّ الموتة الأولى كانت في الجنة، أي أنّ الأرواح كانت في الجنة قبل أن تنفخ في الأجساد، والآن تعود إلى الجنة وهي في الأجساد الحية بكامل وعيها وذاكرتها)!!
وأما أهل النار فلهم حياة "الخلود الأبدي" المتعلق بحسابهم أو ببقاء النار في عذاب جاء وصفه في القرآن الكريم أيضًا من باب التقريب.
"إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّـهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ((خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)) ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرًا". النساء: 168-169.
ولما كان أهل الشرك ينكرون البعث ولا يعترفوا به كقولهم:
"أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ* إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ". الصافات: 58-59.
"إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ". الدخان: 34-35.
فإنهم في [عالم الآخرة] سيعرفون حقيقة الأمر بقولهم:
"قَالُوا رَبَّنَا ((أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)) فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ". غافر:11.
على أن المجرم في العذاب سيكون في حالة يُرثى لها بحيث يتجدد عليه العذاب، "إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا". النساء: 56.
(فلا هو ميت لأنه يحس بالعذاب ولا هو حي لأنه في حالة الموت أهون منها، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام. وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت).. انظر: ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير.
قال تعالى:
"إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ".طه: 74.
"ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ". الأعلى: 13.
أخيرًا ,, فإن القرآن الكريم يقدّم حقائق حول مسائل الحياة والموت، لكن ينبغي فهمُ القرآن الكريم من خلال "القراءة الكلية" له، وينبغي التفريق بين "عالم الغيب" و"عالم الشهادة"، ومعرفة الخطاب القرآني وموقعه وممن صدَر إذا كان مبينًا على الحكاية، ولا بدّ من الإيمان بعالم [اللاشيء] وهو من الغيب السابق، وعالم [الآخرة] وهو من الغيب اللاحق. وأن كل صور الغيب من نعيم الجنّة أو جحيم النار إنما هو من باب التقريب. فالله تعالى هو الرحيم وهو شديد العقاب، وهو أيضًا الآمر بالعدل والقسط.
عالم الموت.. عذاب أم نعيم؟
ورد لفظ الموت ومشتقاته في القرآن الكريم (165) مرّة، وهو عالم غيبي من غير الممكن كشف تفاصيله إلا بالقدر الذي أتاحه القرآن الكريم من معلومات وحقائق.
وأوّل هذه الحقائق وأسماها هو أن الله تعالى لا يموت أبدًا فهو الحيّ قال تعالى: "وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا". الفرقان: 58.
ومن الحقائق أن الموت هو من جملة مخلوقات الله تعالى العديدة المتنوعة كما هي الحياة مخلوقة أيضًا، قال تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ". الملك: 2.
إن المعنى الأكثر تداولاً في القرآن للموت يأتي بمعنى توفّي النفس من البدن قال تعالى: "اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". الزمر: 42.
والله تعالى هو الذي يتوّفى الأنفس بمعنى أنه الآمر بهذا قال تعالى: "اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". الزمر: 42. والقائم الفعلي هو ملك الموت قال تعالى: "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ". السجدة: 11. ومعه أعوانه من الملائكة قال تعالى: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". النحل: 32. وقال تعالى: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَىٰ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". النحل: 28.
يقرر القرآن الكريم حقيقةَ أن الأحياء مرّوا في مرحلة سابقة هي الموت رقم (I) قال تعالى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". البقرة: 28. وقال تعالى: "قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ". غافر: 11. فالمرّة الأولى لم يشعر بها أيّ واحد منّا، كما أنه لا أحد يتذكر شيئًا حينما كان جنينًا في عالم الأجنّة، ولا حتى السنوات الأولى من حياته الحياة الأولى.
يمرّ الإنسان بعد الحياة الدنيا إلى مرحلة الموت II، قال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57، الزمر: 30، آل عمران: 144، الأنبياء: 34. والناظر في الآية الكريمة يجد أن الميْت يُوفّى أجره [يوم القيامة]، فإما إلى نار أو إلى جنّة. وهذا جدير بالملاحظة لما سيأتي من آيات أخرى.
والأصل أن جميع البشر يموتون ولا يرجعون إليها قال تعالى: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ". يس: 31، إلا ما ورد ذكرهم في القرآن المجيد استثناءً، كقوله تعالى: "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَـٰذِهِ اللَّـهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّـهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ". البقرة: 259. انظر: البقرة: 56، البقرة: 243.
والموت لا محالة قاهر كل نفس قال تعالى: "قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ". آل عمران: 168. وقال تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ". النساء: 78. انظر الجمعة: 8.
عالم الموت.. عذاب أم نعيم (1)
إن الموْت له زمانٌ وأجلٌ مقدّر في كتب الله تعالى قال تعالى: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا". آل عمران: 145.
وقال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". الأنعام: 60.
فالوفاة في الليل وهذا غالبًا أو الأصل قال تعالى: "جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا". الإسراء: 12.
لكن مع هذا فقد ينام بعض الناس في النهار وتنطبق عليه "الوفاة الصغرى" فتوفى أنفسهم، وفي المقابل قد يعمل بعض الناس في الليل، كالحراس أو أصحاب العمل الليلي.
كما أن الليل في العصر الحديث صار مُنارًا بفعل الإنارات المخترعة. فصار الليل في بعض الأماكن المتطورة كالنهار. تصلح أن يُبتغى فيها من فضل الله تعالى.
لذا فقد جعل الله تعالى من آياته المنام في الليل والنهار على حدّ سواء قال تعالى:
"وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ". الروم: 23.
والموت مقدّر وله أجلٌ مسمّى عند الله تعالى قال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ". الأنعام: 2.
فـ[الأجل] في الآية هو العمر المحدّد للشخص في الكتاب، و[الأجل المسمّى] هو العمر الذي يعايشه الإنسان الآن ولم ينتهِ بعد. فنحن الآن كلنا لنا آجالٌ، "كتابًا مؤجلاً". آل عمران: 145، ونمضي في الحياة إلى "أجل مسمّى".
والموت يصيب من كُتب عليه آحادًا أو من بين مجموعة قال تعالى: "نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ". الواقعة: 60.
فالتقدير للأعمار هنا متوقّف على الرصيد الذي قدّره الخالق تعالى في الحالة الطبيعية، دونما أي معوقّات أو أضرار (يُعمّر)، أو هو العُمر المقدّر لكن تعرّضه لمعوّقات أو أضرار (يُنقَص)، قال تعالى: "وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ". فاطر: 11. وعليه فإن تقدير الإعمار قرآنيًا يمكن التأثير فيه إلى أبعد حدوده أو نقصانه إذا أُخِذ بأسباب التأثر أو النقصان، لكن كل هذا مقدّر يعلمه الله تعالى بسابق علمه. ولا صحّة لمن يرى أن الله تعالى لم يكتب الأشياء قبل حدوثها قال تعالى: " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ". الحديد: 22. وعليه فإنه من الممكن علميًا أن يطوّل عمر الفرد، لكن كل هذا يكون معلومًا ومقدّرًا عند الله تعالى.
والله تعالى بتقديره للآجال لا يسمح لا بتقديمها ولا تأخيرها. قال تعالى: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ". الأعراف: 34. وقال تعالى: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ". المنافقون: 10.
على أن نوحًا عليه السلام قد دعا قومه بترغيبهم في تأخير أجلهم بالرغم من أن الأجل لا يؤخر قال تعالى :
"يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّـهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ". نوح: 4.
كما هو حال بعض الرسل: قال تعالى: "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّـهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ". إبراهيم: 10.
وهو ذات الحال الذي حصل مع قوم يونس عليه السلام:
"فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ". يونس: 98.
إذ القاعدة العامة أن الإيمان لحظة العذاب لا يُقبل إلا أن الله تعالى رحمته وسعت كل شيء، فقبل من قوم يونس ولم يقبل من فرعون.
والمرء غالبًا لا يدري على وجه التحديد في أي مكان سيموت قال تعالى: "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". لقمان: 34.
والميْت في القرآن الكريم تكون هيأته عند الوفاة على أصناف:
- إمّا أن يموت مسلمًا وهذا ما حرص القرآن الكريم إلى الدعوة إليه قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ". آل عمران: 102.
- وأيضًا أن يكون طيِّبًا قال تعالى: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". النحل: 32.
- وإما أن يموت كافرًا فهذا لا يُقبل منه شيئًا وعليهم لعناتٌ قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".البقرة:161، البقرة: 217، آل عمران: 91، النساء: 18، محمد: 34.
- وإما أن يموت فاسقًا قال تعالى: "وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ". التوبة: 84.
- وأما أن يموت ظالمًا لنفسه قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا". النساء: 97. انظر: النحل: 28.
لذا فلن يجعل الله تعالى الموت على هؤلاء سواء قال تعالى: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ". الجاثية: 21.
والأنفس تحشر بعد خروجها من البدن وترجع إلى الله تعالى قال تعالى: "وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّـهِ تُحْشَرُونَ". آل عمران: 158. "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ". المؤمنون: ١١5.
على أن بدن الميْت وجسده يرجع إلى الأرض قال تعالى: "قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ". الأعراف: 25. وقال تعالى: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ". طه: 55.
وقد أكّد القرآن الكريم قضية بعث الأموات بعدّة براهين قال تعالى: "وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ". الحج: ٧. انظر المنهج العقلي في إثبات البعث.
عالم الموت.. عذاب أم نعيم؟ (2)
وقد ردّ القرآن الكريم على المنكرين لقضية البعث حيث نقل لنا مقالاتهم قال تعالى: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ". الجاثية: 24، وقال تعالى: "إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ". المؤمنون: 37. "إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ". الدخان: 35. انظر الصافات: 59.
ويقرر القرآن الكريم حقيقة أن المؤمنين لا يذوقون حقيقةً إلا موتةً واحدةً هي الموتة الأولى قال تعالى: "لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ". الدخان: 56. بالرغم من أن المؤمنين مرّوا على مرحلة الموت الأولى قبل أن يحيوْا الحياة الأولى (عالم الدنيا) قال تعالى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". البقرة: 28، لكنهم لم يذوقوا وسائر البشر هذا الموت في تلكم المرحلة، إنما فقط سيذوقون الموت الثاني (الأخير)، ومع ذلك فقد سمّاه القرآن الكريم الموتة الأولى مع فعل الذوق، نكاية بأهل النار الذي قالوا: "إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ". الدخان: 35. لكنهم في مشهد من مشاهد عالم الغيب المستقبلي سيدركون حقيقة الواقع: "قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ". غافر: 11.
والمعذّبون في النار هم في حالة لا موت ولا حالة حياة قال تعالى: "إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ". طه: 74. "وقال تعالى: "ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ". الأعلى: 13. "وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ". فاطر: 36. فهم في حركة تخليق مستمر إلى ما شاء الله تعالى قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا". النساء: 56.
وقد ورد في القرآن الكريم ذكرٌ لما يعرف بصلاة الجنازة والقيام على قبر الميْت قال تعالى: "وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون". التوبة: 84.
يتساءل كثيرون حول عذاب أو نعيم "الميْت" في قبره والأصح في "عالم الموت". والإجابة ستكون فقط من القرآن الكريم ابتداءً والروايات التي تتوافق معه.
وقبل الشروع في الإجابة لا بدّ من تبيان المسائل الآتية:
الوعي عند الإنسان:
يكون الوعي عند الإنسان السوي بحسب العوالم كالآتي:
أولاً: الوعي في عالم الدنيا: في حال اليقظة وفي حال النوم للإنسان السوي.
إن الإنسان الواعي في حالة اليقظة يشعر بالزمن، فإذا نام لم يدرك الزمن لغياب وعيه، كقوله تعالى عن أصحاب الكهف: "وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ". الكهف: 19.
فالمرء في إدراك ووعي في حالة اليقظة لكن عند حالة النوم لمدة أعوام طويلة يختزل هذا الإدراك ويخفّض حتى يصير كيوم أو بعض يوم. فالنائم قد ينام أكثر من 12 ساعةً، فلما يستيقظ لا يدرك الوقت على وجه الدقة، بل يُختزل ويُخفّض. وسبب عدم إدراك الوقت في حالة النوم هو أن "النفس" قد تُوفّيتْ جزئيًا قال تعالى: "اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". الزمر: 42. فإذا ما استيقظ المرء سارع إلى أقرب ساعة ليعرف الوقت.
إن النائم في حالة "موت أصغر" لا إحساس لديه بالزمن "الدنيوي" الذي نرقُبُه لغياب الوعي عنده، لكن لا أحد من العقلاء يقول إن النائم لا إحساس لديه بالألم أو الوجع إذا ما تعرّض لضربة أو أذى. إلا إذا كان مغميًّا عليه بالكامل، أو كان في عِداد الموتى!
أما الميْت فهو في حالة "موت أكبر" فلا إحساس له بالزمن "الدنيوي" الذي نرقُبُه ولا شعور لديه بالأثر من ألم أو وجع. والسبب هو أن "النفس" قد توفّيت "بالكامل" وفارقت البدن، قال تعالى: "اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا". الزمر: 42. إلى (عالم آخر) غيبي لا نعرف منه إلا ما صرّح به القرآن الكريم، حيث ترحلُ النفس إلى عالم آخر (عالم الموتى) حيث لا اتصال مع هذا العالم "الدنيوي"، فالبَدنُ لا يعدّ يشعر بآلام، وإن عاد إلى الدنيا مرّة أخرى لن يشعر بالزمن أيضًا كما هو حال النائم تمامًا قال تعالى: "فَأَمَاتَهُ اللَّـهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ". البقرة: 259.
وكمثال تقريبي هبْ أنّ شخصًا دخل غرفة العمليات وقام الأطباء بتخديره تخديرًا كليًا، فسيغيب وعي هذا الشخص تدريجيًا، حتى إذا استحكم عليه المخدّر فإنه لن يدرك الوقت، ولن يشعر بأي آلام أثناء فتح جسده وإجراء العملية، فإذا ما انتهت العملية وانتهى مفعول المخدّر، فإن هذا الشخص سيبدأ يستردُّ وعيَه، فتراه يسأل عن الساعة كم هي؟ أو ينظر إلى أقرب ساعة حائط أو يد، وإن كان الجرح ما زال طريًّا، فإنه سيشعر بالألم، ويُنصح بعدم الحركة. وهذا مثال تقريبي لمن غاب وعيه جزئيًا، فكيف بمن غاب وعيه بالكليّة عند الموت الأكبر؟ فإن إحساسه بالوقت الدنيوي الذي نراقبُهُ وشعوره بالآلام سيكون معدومًا. وعليه يمكن أن يقال إن لا عذاب للجسد، بل يبقى العذاب على "النفس" وهي من عالم الغيب.
عالم الموت.. عذاب أم نعيم؟ (3)
ثانيًا: الوعي في عالم الموت.
تشكل هذه المحطّة نقطة البحث، وفيها يقسم المجرمون يوم تقوم الساعة ما لبثوا في قبورهم غير ساعة، قال تعالى: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ". الروم: 55. وسيكون جوابُ أهل العلم المؤمنين عليهم كما قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّـهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". الروم: 56. فالزمن الذي لبثوه كان من وقت موتهم إلى يوم البعث، قال تعالى: "حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ". المؤمنون: 99-100.
لكن ثمّة فرق بين الزمن الفعلي في العالم الذي فيه الوعي، وبين تذكّر هذا الزمن بعد الرجوع أو الذهاب إلى عالم آخر. فالواعي في عالم الدنيا يشعر بالساعة الدنيوية المرقوبة، و(الواعي) في عالم الموت يشعر بساعة ذاك العالم، كما أنه يشعر بساعة عالم الآخرة، لكن الخلاف هو درجة تذكّر المعلومات إذا غادر أحد العوالم بوعيه. كما هو مثال النائم أو المغمى عليه أو الذي مات ورجع إلى الدنيا أي كان في عالم الدنيا ثم رحل إلى عالم الموت، ثم رجع تارةً أخرى إلى عالم الدنيا. فالزمن عنده اختزل.
لكن ماذا عن العذاب أو النعيم؟؟
سبق أن بيّن القرآن الكريم أن الزمن في عالم الموتى مختزل ومخفّض، بحيث أن الراجع إلى الحياة الدنيا بعد رحلته إلى عالم الموت لا يشعر بالزمن الدنيوي المراقب، والذاهب إلى الحياة الآخرة بعد رحلته من عالم الموت يلبث في كتاب الله تعالى أي في حكمه زمانًا حتى يوم البعث، وهو في منظور عالم الآخرة وقت الإجابة على السؤال كم لبثتم ستكون الإجابة ساعةً من نهار أو عشيةً أو ضحاها أو عشْرًا على اختلاف أصنافهم، علمًا بأن تقدير الساعة في عالم الآخرة مختلف جدًا عن تقدير الساعة الدنيوية. قال تعالى: "إِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ". الحج: ٤٧.
يقرّر القرآن الكريم أن الميْتَ الكافرَ يعرض على النار، قال تعالى:
"النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ". غافر: 46.
فعرض النّار عليهم (غدُوًّا وعشيًّا) عذاب، فلا يقال إنهم يعرضون على النار، لا النار تُعرض عليهم، وكأن عرض النار عليهم نوع من أنواع النعيم، أو لاشيء! وأما عرض النار عليهم فهو نوع من أنواع العذاب الأليم!!
ومما يتفق مع هذه الآية الرواية الآتية: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة". أخرجه البخاري ومسلم.
ونلاحظ قرآنيًا أنهم يعرضون عليها في عالم الآخرة كذلك قال تعالى: "وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ* وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ". الشورى: 44-45.
كما أن النار تعرض على أصحابها يوم الآخرة قال تعالى: "وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا". الكهف: 100. وقال: "وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ". الفجر: 23.
وعليه فالقراءة الكلية لآيات القرآن الكريم تبيّن أن عرض أصحاب النار على النار يكون في العالميْن في عالم الموت، وفي أحد محطّات عالم الآخرة ثم بعد ذلك دخولها والعياذ بالله تعالى. أما عرض النار على أهلها فلا يكون إلا في عالم الآخرة.
في إحدى الآيات الكريمات يصوّر القرآن الكريم لحظة ولْولة أصحاب النار حينما ينفخ في الصور ويخرجون من مرقدهم قال تعالى: "قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَـٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ". يس: 52.
فواضح من الآية الكريمة أن ما سيأتيهم عذاب شديد، ظهر ذلك من ولولتهم، لكن ماذا عن شعورهم بالعذاب في مرقدهم؟!
يمكن القول إنه وبالنظر إلى ما كانوا عليه من عذاب عرض النار عليهم كما سبق أن بيّنته آية غافر، فإنهم حينما يبعثون بعد النفخة الثانية: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ". يس: 51. فسيدركون أن ما مضى من عذاب في عالم الموت بالنسبة إلى ما هو قادم من عالم الآخرة قليل. ويدلّ على هذا قوله تعالى: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ". غافر:46.
قد يعترض البعض بأن لا عذاب قبل الحساب. فقد غاب عنهم أن حساب الله تعالى قرآنيًا لا ينحصر العذاب في عالم الحياة الآخرة، بل قد يكون العذاب في عالم الدنيا أيضًا، ومثاله قوله تعالى: "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ". التوبة: 55. "وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ". التوبة: 74.
فالمنافقون مثلاً سيُعذّبهم الله تعالى مرّتين وذلك قبل يوم عذاب القيامة، قال تعالى: "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ". التوبة: 101.
"فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ". آل عمران: 56.
"لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مِن وَاقٍ". الرعد: 34.
"وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ". السجدة: 21.
وهذا القدر من الآيات الكريمات يقطع ظنّ كل ظانّ، ويؤكد أن العذاب لا ينحصر في عالم الآخرة.
ثالثًا: الوعي في عالم الآخرة (الحيوان): وهو على محطات كالآتي:
• محطة قيام الساعة: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ". الروم: 55. حيث يقسم المجرمون أن ما لبثوه من وقت موتهم (فراقهم عالم الدنيا) إلى وقت بعثهم (دخولهم عالم الآخرة) هو ساعة من ساعات عالم الوعي وقت التكلّم بالقسم وهو "عالم الآخرة" كما هو الظاهر.
ويكون جواب أهل العلم المؤمنون -أيضًا في "عالم الآخرة"- كما صوّره قوله تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّـهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". الروم: 56.
• محطة البعث: قال تعالى: "يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا". الإسراء: 52. ومعنى "تظنّون" هو توقنون. والمعنى أن الموتى سيبعثون وعندها سيتيقّنون أن ما لبثوه في حياة "عالم الدنيا" كان قليلاً. ويدخل فيه أيضًا مدّة مكوثهم في "عالم الموت".
• في محطة الحشر: قال تعالى: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّـهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ". يونس: 45. "وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا". طه 102-104. وهنا تختلف إدراكات أهل النار لزمن "عالم الدنيا" وذلك حسب أعمالهم أو أماكن حشرهم!
• في محطة السؤال: قال تعالى: "قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ". المؤمنون:112-114. وهذه المحطة توافق محطة البعث السابق ذكرها.
• في محطة رؤية العذاب: قال تعالى: "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ". الأحقاف: 35. وقال تعالى: "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا". النازعات: 46. وهذا يكون بالمقارنة بما كانوا عليه من زمن "عالم الدنيا" و"عالم الموت". فكل هذه الأزمان السابقة بالنسبة إلى "عالم الآخرة" كزمن ساعة من نهار أو كعشية أو ضحاها من "عالم الآخرة".
من خلال ما سبق يتبيّن أن الوعي وتقدير زمن "عالم الدنيا" أو عالم الموت" بالنسبة لـ"عالم الآخرة" سيكون قليلاً، وقد وضحت الآيات الكريمات هذه الحقيقة في عدّة محطات من "عالم الآخرة"، كما أن هذا الشعور والوعي مختلف من شخص إلى آخر وذلك تبعًا للحالة أو الدرجة التي يكون عليها وقت الحشر في أحد محطات "عالم الآخرة".
وإذا ثبت أن الميْت سيتعرّض لعذاب أو لنعيم في عالم الموت؟ فهل هو على النفس أم على البدن؟
معلوم أن بدن الميْت الصحيح الكامل يتعفّن غالبًا، ويتحلّل ويصير ترابًا، وقد يكون البدن مُفتّتًا نتيجة انفجار! أو محروقًا نتيجة تعرضه لكارثة الخ. فالبدن لا يطولُه عذاب. لذا بقي أن العذاب في "عالم الموت" يكون على النفس التي هي أيضًا من "عالم الغيب".
لكن ورد في القرآن الكريم ما يفيد وقوع العذاب على الجسد كما في قوله تعالى: "وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ". الأنفال: 50. وقوله تعالى: "فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ". محمد: 27.
فالعذاب في الآيتيْن للجسد (الوجوه والأدبار) هاهنا لكن حالة انتزاع النفس قبل الدفن كما هو واضح والرحيل إلى "عالم الموت".
لقد ثبت قرآنيًا أن الميْت يدخل نارًا مباشرة بعد عالم "الحياة الدنيا" قال تعالى: "مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّـهِ أَنصَارًا". نوح: 25.
ونلاحظ حرف "الفاء" الذي يفيد الترتيب بلا تعقيب، فقوم نوح بعد أن أغرقوا أدخلوا نارًا، وليس "النار"، وهذا يعني أنهم في عذاب، والعذاب الذي سيوّفونه هو "النار" بالـ التعريف التي تدلّ على العهد سيكون بعد قيام الساعة. فبعد استيفاء النفس من المرء يصير الميْت إلى "عالم الموت"، فلا يستطيع الرجوع إلى "عالم الدنيا" إذ البرزخ يمنع هذا: "لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ" المؤمنون: 100. ولا هو يدخل "النار" إذ لم تقمْ الساعة بعد: "وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". آل عمران: 185. "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ". غافر: 46.
عالم "حياة الدنيا" : (موت) ------> عالم "الموت" : (قيام الساعة--> عالم "الآخرة".
: مـــــــــــــــــــو ت (عذاب) :
وقرآنيًا ثبت أن الظالمين في غمرات الموت -وهو نوع من العذاب أيضًا- يدخلون بعد الموت في نوع من العذاب قال تعالى: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون". الأنعام: 93.
إن دلالة لفظ "اليوم" تدلّ على زمن غير زمن يوم الساعة بالضرورة، وهو زمن "عالم الموت" الغيبي. فالعذاب الهون يكون في "عالم الموت" كما هو واضح وظاهر. لا الوعد بالعذاب الآخروي مستقبلاً.
لذا فإن النفس في عالم الموت الغيبي تعذّب كما سبق قرآنيًا وما وافقه من روايات، أو تُنعّم كما في قوله تعالى: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". النحل: 32. وقوله تعالى: "قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ". يس: 26.
كما أنّ الميْت قرآنيًا يعني غياب الجسد والصورة المألوفة للمخلوق، لكنه في حقيقة الأمر هو ميْت بالنسبة لنا نحن المراقبين "الأحياء" في "عالم الحياة الدنيا" قال تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". آل عمران: 169. وقوله تعالى: "وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ". الحديد: 19.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الميْت في أحد معانيه في القرآن الكريم يرد بمعنى الضّالّ قال تعالى: "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". الأنعام: 122.
أخيرًا فإنه ليس من الصواب في شيء التنكّر لهذه الآيات أو ترك دلالاتها، بدعوى اختلاط العديد من الروايات السائدة بما يخالف القرآن الكريم، فالعُمدة هو القرآن الكريم وما وافقه، فقد تبيّن من خلال التدبر واستقراء الآيات ذات العلاقة أن عذابًا أو نعيمًا سيجترحُ النفسَ بعد الموت في "عالم الموت"، لا البدنَ خلا وقت انتراع النفس من الجسد، وأن محطّة "عالم الموت" غيبية ليس لنا من علمها إلا ما فسحه القرآن الكريم من مساحة، كما أن كينونة "النفس" ذاتها من علم الغيب، فالمسألة غيب في غيب، وعلى المؤمن أن يهتمّ بما ينفعه في دنياه، وأن يحتكم إلى القرآن الكريم في فهم دلالته.
قال تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". التوبة: 105.
ونصيحة لنفسي ولأصدقائي: "لا تنشغلْ بما ينبغي أن يكون عمّا هو كائن".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق