الجمعة، 1 يناير 2016

الإسلام في عهد المدينة وعلاقته مع المجتمع العربي (1)

الفصل الثاني
الإسلام في عهد المدينة وعلاقته مع المجتمع العربي
- علاقة المسلمين مع اليهود
- علاقة المسلمين مع النصارى

- علاقة المسلمين مع القبائل العربية

مقدمة
كان لانتشار اليهود واستقرارهم على الطرق التجارية دور في تنامي قوتهم، وربطت بينهم علاقات جيدة، وأحسنوا استغلالهم للمناطق التي سكنوها في مجالي التجارة والزراعة، فجمعوا الأموال وعلا شأنهم حتى أصبحت لهم الكلمة العليا في الحجاز[1].
وقد بلغ اليهود أوج قوتهم في حوالي القرن الخامس وحتى بداية القرن السادس الميلاديين، حيث كانت قريظة والنضير ملوكًا على مدينة الأوس والخزرج[2]. غير أن قدوم الأوس والخزرج إلى يثرب في بدايات القرن السادس الميلادي أنهى القوة السياسية لليهود، حيث تمكن الخزرج بمساعدة الغساسنة من انتزاع السلطة من اليهود ساعد في ذلك وقوع الخلافات والنزاعات بين اليهود[3].
لكن يبدو أن اليهود قبيل ظهور الإسلام قد استطاعوا التحكم باقتصاد المدينة المنورة، وتمثل دورهم الاقتصادي في إنتاجهم الزراعي وممارستهم الحِرف اليدوية وكثير من الصناعات فضلاً عن دورهم التجاري[4].




علاقة المسلمين مع اليهود
يسجل المؤرخون توقّع اليهود خروج نبي آخر الزمان، وقد ذكروا عدة أخبار تفيد ذلك، فقد كان أهل يثرب يسمعون من أحبار يهود -إذ كانوا أهل كتاب عندهم علم- وكانت لا تزال بين الأنصار وبينهم شرور، فإذا نالوا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لهم: "قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم؛ أي يستأصلكم بالقتل، فكانوا كثيرًا ما يسمعون ذلك منهم"[5].
وذكروا أن رجلاً من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان قدم يثرب، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس خيرًا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله بسنين، فكنا إذا قحطنا وقلّ علينا المطر نقول له: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا، فيقول: لا، والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة. فنقول: كم نقدم فيقول صاعًا من تمر، أو مدين من شعير، ثم يخرج إلى ظاهرة حرتنا ونحن معه فيستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع، فقلنا: أنت أعلم. فقال: إنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجره، فأتبعه فلا تسبقنّ إليه إذا خرج يا معشر يهود فإنه يسفك الدماء ويسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه ثم مات[6].
وكان جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج يومًا من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل. قال سلمة: وأنا يومئذ حدث علي بردة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، قال: فقال: ذلك في أهل يثرب والقوم أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا عند الموت، فقالوا له: ويحك أترى هذا كائنًا يا فلان أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟! قال: نعم والذي يحلف به، قالوا: يا فلان ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة، قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إلي، وأنا أصغرهم سنًا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تبارك وتعالى رسول الله، وهو حي بين أظهرنا فآمنا به، وكفر بغيًا وحسدًا، فقلنا له: ويحك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟، قال: بلى، ولكنه ليس به"[7].
وهكذا اليهود من أهل يثرب كانوا يتوعّدون الأوس والخزرج بمقدم آخر نبي، ومن ذلك ما قاله حسان بن ثابت: "والله إني لغلام يفعة ابن سبع أو ثمان سنين، أعقل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا وهو على أطمة يثرب يصرخ يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا قالوا: ويلك ما لك؟ فقال: قد طلع نجم الذي يبعث الليلة"[8].




ويمكن تقسيم موقف الرسول من اليهود إلى مرحلتين:
الأولى: مرحلة الجدال مع اليهود
يسجل المؤرخون أول احتكاك فعلي بين الرسول واليهود، وذلك باتصاله بالحَبر عبد الله ابن سلام[9] وهو أحد أحبار اليهود السابقين والذي أسلم وحسن إسلامه[10]، وكان من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله المدينة في بني النجار جاءه مستعجلًا، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبي، ولما سمع ردوده عليها آمن به ساعته ومكانه، ثم قال له: إن اليهود قوم بُهْتٌ"[11]. ودعا اليهود إلى الدخول بهذا الدين والإقرار أنه النبي المنتظر الذي يجدونه مكتوبًا في كتبهم؛ ولكنهم أبوا ورفضوا وعاندوا حسدًا من عند أنفسهم؛ فعند ذلك عقد الرسول معهم معاهدة وكان أهم بنودها فيما يتعلق باليهود:
"أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين"[12].
وجاء في الوثيقة أن الحكم في المدينة لله ورسوله كما في البند الآتي: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله"[13]،
روى بنود الصحيفة ابن هشام[14]، وابن كثير[15]، وابن سيد الناس[16]، كلهم عن ابن إسحاق[17] دون ذكر سند. وعلى كل حال فإننا سنناقش هذه الوثيقة -رغم ضعف سندها-.
        فالقرآن المدني يناقض ما ورد في الصحيفة فيما يتعلق ببند: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد".  ذلك بقوله: "فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"[18]. فقد قيل إنها نزلت في الديَة من بني النضير وقريظة في السنة الرابعة[19]، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يريدون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يريدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى الرسول، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم الرسول على الحق، فجعل الدية سواء[20]. وقيل نزلت في اليهوديين اللذين زنيا[21]. سواء كان الحكم في قضية دية قتلى أو حكم فيمن زنى، واضح أن القرآن لم يلزم اليهود بضرورة التحاكم إلى محمد، ولا ألزم محمدًا بضرورة تنفيذ الأحكام على اليهود.
يبدو أن الوثيقة ورد فيها بنود عن الحماية والدفاع المشترك، والدليل على ذلك الممارسة الفعلية بإنزال العقوبات على من خالف تلك البنود[22]. أما بخصوص البنود التي تؤكد على أن الحكم الأول والأخير للرسول فواضح أن نصوص القرآن الكريم تخالفها، إذ جعلت التحاكم إلى الرسول أمرًا اختياريًا. وأمرت أهل الكتاب أن يتحاكموا إلى كتبهم الخاصة. وذلك في قوله تعالى: "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"[23]. وكذلك: "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ"[24]. فإذا سلمنا أنها محرفة فلمَ يأمرهم بالتحاكم إلى المحرَّف؟ يبدو أنه يدعوهم لاستخراج النسخ الأصلية غير المحرفة التي قد أخفوها واستبدلوها بكتب كتبوها بأيديهم.
لذا فقد أمر الله بإقامة التوراة والإنجيل، ولا يكون ذلك الأمر إلا لعلمه بوجود الكتب غير المحرفة، "قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"[25]، واضح أنهم كانوا يخفون تلك النسخ الأصيلة "يا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ.."[26]. ويظهرون ما حرّفوه "فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ –الكتاب الأصلي- وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا –المحرف- فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"[27]. "فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ –المحرف- ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ"[28]. "قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً"[29]. "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ"[30]. وهذا اعتراف صريح بالاختلاف، وأن أحكام التوراة يجب أن تطبق على اليهود، تمامًا مثلما تطبق أحكام القرآن على المسلمين[31]. وهذا ما يوافق ما ورد في بند الصحيفة:  "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".
أما بخصوص بند: "ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر". فليس المقصود منه أن لا يُقتل مؤمن بكافر معاهد له ذمة، بل إنه يُقتل به؛ لأن القرآن قرّر أنّ: "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى"[32]. بغض النظر عن ديانته واعتقاده. ولكن المراد من هذا البند أنه لا يُقتل مسلم بكافر محارب. وهذا ما ذهب إليه الحنفية حيث خصصوا الكافر بالحربي، وليس عموم الكفار[33]. ولا التفات ولا اعتبار لما يرى جمهور الفقهاء من أنه لا يقتل حر بذمي ولا يقتل مسلم بذمي حر، بحجة أن الإسلام أعلى من حرية الذمي، والأعلى لا يقتل بالأدنى[34]. وما استدلوا به: "لا يقتل مسلم بكافر"[35]. فالقرآن هو الأعلى حيث قرّر أن النفس بالنفس.
من خلال ما سبق يتضح لنا أن الرسول -على فرض صحة الصحيفة- قد ضمن الحرية الدينية لليهود، وهذا أصل أصيل في دعوته، ولا صحة على إلزام اليهود للتحاكم لمحمد، وخاصة أن السيطرة الاقتصادية والسلطة السياسية كانت تحت أيديهم، فلا يعقل أن يُلزموا بالتحاكم إليه. ومن جهة أخرى هناك إشارات واضحة إلى ضرورة الدفاع عن المدينة، وإلزام اليهود في ذلك كونهم مواطنين فيها، والدليل على ذلك إنزال عقوبات متعارف عليها فيمن يخذل العهد، أو يحرض على نكث الوعد. وأخيرًا لا يمكن للنفس الآدمية أن تختلف باعتبار الدين، بل تختلف في حالة أنها مسالمة أو محاربة، فلا تساوي بينهما.
ساد الخطاب القرآني في المرحلة المكية على أن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وكان مجاله في ذلك الناحية العقدية، وبالتحديد عقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل من قبل، حيث كان الخطاب يتحرك ضمن مسار توحيد/ شرك، إيمان/ كفر. "وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ"[36]. لكن بعد الهجرة إلى المدينة بدأت مرحلة ثانية جديدة من علاقة محمد بأهل الكتاب، فقد بدأ محمد يحاول كسب اليهود إلى جانبه، وذلك بالاقتراب منهم، وينطبق ذلك على قبول بعض الطقوس الشعائرية مثل صيام عاشوراء، والتوجه إلى القدس أثناء الصلاة، ووصل هذا الوضع من العلاقات الإسلامية – اليهودية إلى نهايته مع توقف التوجه إلى القدس، قبل معركة بدر بقليل وهو أول صراع كبير مع المكيين، فلم يجد محمد أي استجابة من قبل يهود المدينة، فعارضوا تعاليمه التي بدت غريبة في آذانهم وكانوا غير مستعدين لدعمه أثناء تحقيق خططه بخصوص مكة والعرب الوثنيين، ووصل الجدال بين محمد واليهود إلى القطيعة وذلك بعد الهجرة بقليل. وطُبع الجدال منذ ذلك الحين بطابع العداء، وانعكس هذا الجدال في القرآن بأساليب متنوعة[37].
محاولات كسب اليهود:
صيام عاشوراء: يذكر المؤرخون والمحدثون أن الرسول كان يصومه في الجاهلية مع أهل مكة، كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان الرسول الله يصومه"[38]. وأنه لما قدم المدينة[39] وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عنه. فقالوا: هذا يوم عظيم، وهو يوم نجى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون، فصامه موسى شكرًا لله. فقال: "أنا أولى بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه"[40]. وقد شدّد في الحث على ذلك لدرجة أنه أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: "من أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم"[41]. وقال بعدها: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع". قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي الرسول"!![42].     وأفاد المحدثون أنه حينما فُرض رمضان ترك الرسول صيام عاشوراء: "كان يُصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك"[43]. وفي رواية: "إنما هو يوم كان الرسول الله يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان، فلما نزل شهر رمضان ترك"[44].
ومعلوم أن فرض رمضان كان في السنة الثانية للهجرة[45]، لذا فلم يصُمْ الرسول إلا مرة واحدة، وهو أول دخوله المدينة، وذلك لكسب اليهود لجانبه، بأن هنالك نقاطًا مشتركة، وهو الإيمان بنبوة موسى،  ولكن اليهود سرعان ما رفضوا دعوة محمد، فترك صيام عاشوراء بصوم رمضان.
قِبلة الصلاة:
كان الرسول يستقبل صخرة بيت المقدس؛ وهي قبلة اليهود، فاستقبلها الرسول سبعة عشر شهرًا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعوا بذلك الأميين من العرب[46]. فلما لم يستجب اليهود لدعوة محمد، صرفت القِبلة عن الشام إلى الكعبة، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرًا من مقدم الرسول المدينة[47].
ولئن كان منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب وفق قوله تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"[48]. إلا أن الأمر يبدأ يختلف، وأخذ يتجه بمسار سلبي، فقد رأى اليهود في الإسلام منافسًا قويًا فرفض معظمهم الاعتراف به، وقد سجل القرآن مواقف عدائية من جانب اليهود، فقد بدأ بالتذكير والتحذير كما في قوله: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"[49]. "وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ"[50]. وذلك بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالمًا[51]. وقوله: "وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ"[52].
ويواصل القرآن تسجيل مواقفهم العدائية، ويذكرهم بما عُرف عنهم في التاريخ من معاداة أنبيائهم، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"[53]. ووصفهم باللعن: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ"[54]. "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"[55]. وبيّن عقابهم في الآخرة: "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"[56]. وذكر مسالكهم السيئة: مثل قولهم "نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"[57]. وقولهم: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ"[58]. قال بعض أهل العلم أن الذي يقول ذلك بعض اليهود وليس كلهم، بل الصدوقية[59] من اليهود وباقي الطوائف تنكر هذا. قال ابن حجر: "ويمكن أن يجاب: بأن خصوص هذا الخطاب لمن كان متصفًا بذلك، ومن عداهم يكون جوابهم ذكر من كفروا به"[60]. وقولهم: "وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ"[61]. "وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ"[62]. فالقرآن يقرّر أن الجنة: "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوآً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً"[63]. وكذلك قولهم: "وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً"[64]. وقولهم: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ"[65]. "لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ"[66]. ومطالبتهم بإنزال كتاب: "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ"[67].
يلاحظ أن الخطاب القرآني لليهود كان بعدة أسماء، يناديهم ببني إسرائيل في معرض تذكيرهم بنعمه عليهم، وخاصة أيام بعث لهم نبيه موسى عليه السلام، ثم لما عصوا ربهم بعد خروجهم من البحر، ونجاتهم من عدوهم، ثم دعا لهم موسى طالبًا المغفرة، وحثهم على التوبة صاروا ينادون باليهود؛ لأنهم هادوا أي تابوا[68].
لكن مع كل ذلك فاليهود ليسوا على مرتبة واحدة، فقد قرّر القرآن ذلك مرارًا: "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ"[69]. وقوله: "فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ"[70]. وقوله: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونََ"[71]. وقوله: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ"[72]. وقوله: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ"[73].
تساؤالاتهم وتعنتهم:
إن اليهود سألوا محمدًا زمانًا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصهم. فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا![74].
فقد سألوه عدة مرات مجموعة أسئلة فكان يجيبهم عليها، لكنهم كانوا  يقابلون الجواب بالتعنت مع اعترافهم الضمني بأنه حق. من هذه الأسئلة: "أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ ومن أول الناس إجازة؟ وما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ وما غذاؤهم على إثرها؟ وما شرابهم عليه؟"[75]، وسألوه مرةً عن الروح[76]، وسألوه كذلك: "ما علامة النبي؟ كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ عن الرعد ما هو؟ ما هذا الصوت الذي يسمع؟ ما حرم إسرائيل على نفسه؟ من الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبي إلا ويأتيه ملك من الملائكة بالرسالة والوحي فمن صاحبك؟"[77]، ومرة سألوه: "ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟"[78].
محاولاتهم اغتيال الرسول
يسجل المؤرخون أول محاولة قام بها اليهود لاغتيال الرسول وذلك عندما ذهب إلى بني النضير في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الرجلين – الكِلابِيَيْنِ- اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأً، وطلب منهم الرسول ذلك بناءًا على المعاهدة التي بينه وبينهم، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم! اجلس هنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ... وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان سوءًا، فتآمروا على قتله، بأن يصعد أحدهم الجدار فيلقي عليه صخرة كبيرة فتقتله، فنزل جبريل عليه السلام من عند رب العالمين على الرسول يخبره الخبر، فقام الرسول مسرعًا وتوجه إلى المدينة، ثم لحقه أصحابه فأمر الرسول بالتهيؤ لحربهم، وكان ذلك في السنة الرابعة بعد غزوة أحد، فلما نزل الرسول بهم يعني ببني النضير تحصنوا منه في الحصون، فأمر الرسول بقطع النخل، والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟![79] فأنزل الله عز وجل "مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ"[80]. فحاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام[81]  [82].
نكث بنو النضير ما عاهدوا محمدًا، في عدم معاونته إياه في دفع الدية، ثم حاولوا اغتياله، فقد بدت العداوة واضحة، فكان لا بد من معاقبتهم فحوصروا، وحُرقت نخلهم، وهذه العقوبة كانت مما هو متعارف عليه عند اليهود، فقد ورد في توراتهم: "وإذا حاصرتم مدينة حِقبة طويلة معلنين الحرب عليها لافتتاحها، فلا تقطعوا أشجارها بحد الفأس وتتلفوها؛ لأنكم تأكلون من ثمارها، هل شجرة الحقل إنسان حتى يهرب أمامكم في الحصار؟ أما الأشجار التي لا يُؤكل ثمرها فأتلفوها واقطعوها، لاستخدامها في بناء حصون حول المدينة المحاصرة المتحاربة معكم، إلى أن يتم سقوطها"[83]. و"حين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولاً، وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها، فإذا أسقطها الرب إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الرب إلهكم لكم، هكذا تفعلون بكل المدن النائية عنكم، التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا"[84].
وأما ثاني محاولة اغتيال فكانت بالسُّم، فلما فتحت خيبر أهديت للرسول شاة فيها سُم. فقال الرسول: "اجمعوا إلي من كان ها هنا من يهود". فجمعوا له، فقال: "إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟". فقالوا: نعم، قال لهم النبي: "من أبوكم؟". قالوا: فلان، فقال: "كذبتم، بل أبوكم فلان". قالوا: صدقت، قال: "فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألت عنه؟". فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: "من أهل النار؟". قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفونا فيها، فقال الرسول: "اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا". ثم قال: "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟". فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سُمًا؟". قالوا: نعم، قال: "ما حملكم على ذلك؟". قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًا لم يضرك[85].
 سحرهم الرسول:
بيّن الواقدي السنة التي وقع فيها السحر، لما رجع الرسول من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع[86]. أما مدة تأثر بالسحر فالإسماعيلي يرى أن الرسول أقام أربعين ليلة، وعند الإمام أحمد ستة أشهر[87]، وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث الرسول فيها في السحر، حتى ظفرت به عند الزهري أنه لبث ستة أشهر فهو المعتمد!![88].
كان الرسول سُحِر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن!!، وفي رواية أخرى قال: "سُحر رسول الله رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان الرسول يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله"[89]. قال الراوي: وهذا أشد ما يكون من السحر، إذا كان كذا. فقال: "يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب –مسحور-. قال: ومَن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم -رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقًا-. قال: وفيمَ؟ قال: في مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ - المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان-. قال: وأين؟ قال: في جُفِّ -وعاء الطلع وغشاؤه -طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ - صخرة تجعل في أسفل البئر إذا حفرت تكون ثابتة هناك فإذا أرادوا تنقيتها جلس المنقي عليها- فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ. قالت: فأتى الرسول البئر حتى استخرجه. فقال: "هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين". قال: فَاسْتُخْرِجَ. قالت: فقلت: أفلا - تنشّرت–؟ فقال: "أما والله فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا". فأمر بها فدفنت[90].
إن مسألة سحر الرسول من قِبل اليهود، كما ورد في الروايات بحيث أنه يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، بغض النظر عن تفسير الحالة التي كان الرسول عليها، سواء كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، أو أنه كان يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود[91]. وبغض النظر عن المدة التي استمرت فيه هذه الحالة، فإن ذلك كله مدعاة لتصديق ما زعمه الكافرون في قوله تعالى: "وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحورًا"[92]. وقد رد الله قولهم وأبطله، فقال تعالى: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً"[93]. "لذا فالقرآن جاء بنفي السحر عن رسول الله، حيث نسب القول بإثباته إلى المشركين ووبخهم على ذلك"[94]. والسحر أصلاً خداع وتمويه، وليس له حقيقة.
ثم على فرض صحة ما يقولون من سحر الرسول، فما كان ينبغي له أن يظل يعاني من هذا السحر تلك المدة، فقد ورد أن عنده ما يمنع من تأثير السحر؛ كالأذكار، كما ورد عنه أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة …كانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي"[95]. وأيضًا كالعجوة التي بفضلها لا يؤثر السحر عليه كما ورد عنه: "من اصطبح كل يوم تمرات عجوة لم يضره سُم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل"[96].


[1] ياسين، خالدة. موقف الرسول من يهود الحجاز دراسة تاريخية منهجية. نابلس: جامعة النجاح الوطنية، رسالة ماجستير، 2009م، ص61.
[2] ابن رستة، أحمد بن عمر. الأعلاق النفيسة. بيروت: دار صادر، 1893م، ص177.
[3] سحاب، فكتور. إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف. بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 1992، ج1، ص102-104.
[4] ياسين، خالدة. موقف الرسول من يهود الحجاز. ص65.
[5] ابن اسحاق، محمد. السيرة النبوية. ج1، ص22. ابن الأثير. الكامل في التاريخ. ج1، ص273. الحلبي، علي بن برهان الدين. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون. بيروت: دار المعرفة، 1400 هـ، ج1، ص300.
[6] البيهقي، أحمد بن الحسين. سنن البيهقي الكبرى. كتاب السير، باب الحربي يدخل بأمان وله مال في دار الحرب ثم يسلم، حديث رقم: 18042، ج9، ص114. ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج2، ص39.
[7] الحاكم، محمد بن عبد الله. المستدرك على الصحيحين. كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري رضي الله عنه، حديث رقم: 5764، ج3، ص 471. قال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم.
[8] الحاكم، محمد بن عبد الله. المستدرك على الصحيحين. كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين في هجاء الشرك والمشركين، حديث رقم: 6056، ج3، ص 554. ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج1، ص99.
[9] الإمام الحبر، المشهود له بالجنة. أبو الحارث الإسرائيلي، حليف الأنصار. من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. الذهبي، محمد بن أحمد. سير أعلام النبلاء. ط9، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1993م، ج2، ص413.
[10] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم: 3621، ج12، ص 299. ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج3، ص50، ابن كثير. السيرة النبوية. ج2، ص 295.
[11] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب حديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، حديث رقم: 3082، ج11، ص 110. ابن كثير، إسماعيل بن عمر. السيرة النبوية. ج2، ص 296.
[12] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج3، ص34. ابن كثير. البداية والنهاية. ج3، ص276.
[13] ابن هشام، السيرة النبوية. ج3، ص 34. ابن كثير، إسماعيل بن عمر. السيرة النبوية. ج2، ص322.
[14] ابن هشام. السيرة النبوية. ج3، ص 34.
[15] ابن كثير. السيرة النبوية. ج2، ص322. البداية والنهاية. ج3، ص275. 
[16] ابن سيد الناس، محمد بن عبد الله. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير. بيروت: مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ج1، ص 261.
[17] قال الدارقطني: اختلف الأئمة فيه وليس بحجة إنما يعتبر به. ولم يخرجه البخاري من أجل روايته المطولات، وقد استشهد به وأكثر عنه فيما يحكى في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحواله وفي التواريخ، وهو عالم واسع الرواية والعلم ثقة. ابن حجر، أحمد بن علي. تهذيب التهذيب. ج9، ص 40.
[18] آل عمران: 42.
[19] الحلبي، علي بن برهان الدين. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون. بيروت: دار المعرفة، 1400 هـ، ج2، ص 334.
[20] السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر. الدر المنثور في التأويل بالمأثور. ج3، ص 384.
[21] ابن كثير، إسماعيل بن عمر. تفسير القرآن العظيم. تحقيق: سامي بن محمد سلامة، ط2، دار طيبة، 1999م، ج3، ص 119.
[22] كما سيأتي لاحقًا.
[23] المائدة: 47.
[24] المائدة: 43.
[25] آل عمران: 93.
[26] المائدة: 15.
[27] آل عمران: 187.
[28] البقرة: 79.
[29] الأنعام: 91.
[30] الرعد: 36.
[31] الجابري، محمد. مدخل إلى القرآن الكريم. ص206.
[32] البقرة: 178.
[33] الجزيري، عبد الرحمن. الفقه على المذاهب الأربعة. ج5، ص 136.
[34] الجزيري، عبد الرحمن. الفقه على المذاهب الأربعة. ج5، ص 150.
[35] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب الديات، باب العاقلة، حديث رقم: 6394 ، ج21، ص 213.
[36] الأحقاف: 12.
[37] بوسه، هيربرت. أسس الحوار في القرآن الكريم.. دراسة في علاقة الإسلام باليهودية والمسيحية. ط1، المجلس الأعلى للثقافة، 2005م، ص72.
[38] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، حديث رقم: 1863، ج7، ص125.
[39] أي أول مناسبة لعاشوراء له بعد قدومه المدينة، حوالي بعد عشرة أشهر.
[40] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: "وهل أتاك حديث موسى"، حديث رقم: 3216، ج3، ص 1244.
[41] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب الصوم، باب صوم الصبيان، حديث رقم: 1960، ج7، ص 284.
[42] مسلم، ابن الحجاج. صحيح مسلم. كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء، حديث رقم: 1916، ج5، ص 479.
[43] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب التفسير، باب تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، حديث رقم: 4233، ج4، ص 1637.
[44] مسلم، ابن الحجاج. صحيح مسلم. كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، حديث رقم: 2704، ج3، ص 148.
[45] أي بعد الهجرة بسبعة عشر شهر.
[46] الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان في تأويل القرآن. ج2، ص527. السيوطي، عبد الرحمن، الدر المنثور في التأويل بالمأثور، ج1، ص279.
[47] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج3، ص86.
[48] العنكبوت: 46.
[49] البقرة: 40-44.
[50] البقرة: 74.
[51]  ابن كثير، إسماعيل بن عمر. تفسير القرآن العظيم. تحقيق: سامي بن محمد سلامة، ط2، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1999م، ج1، ص 255.
[52] المائدة: 20.
[53] البقرة: 91.
[54] البقرة: 88.
[55] المائدة: 78-79.
[56] آل عمران: 77.
[57] المائدة: 18.
[58] التوبة: 30.
[59] طائفة من اليهود نسبوا إلى رجل يقال له صدوق وهم يقولون من بين سائر اليهود إن العزير ابن الله وكانوا بجهة اليمن انظر: ابن حزم. الفصل في الملل. ج1، ص82.
[60] ابن حجر، أحمد بن علي. فتح الباري. ج11، ص449.
[61] البقرة: 135.
[62] البقرة: 111.
[63] النساء: 123-124.
[64] البقرة: 80.
[65] المائدة: 64.
[66] آل عمران: 181.
[67] النساء: 135.
[68] الحوشان، يوسف بن حمود. الآثار الواردة عن السلف في اليهود في تفسير الطبري، جمعًا ودراسة عقدية. الرياض: كلية أصول الدين، رسالة دكتوراة في العقيدة والمذاهب المعاصرة، 1424هـ، ج2، ص 116.
[69] الأعراف: 159.
[70] الصف:14.
[71] آل عمران: 75.
[72] آل عمران: 113-115.
[73] آل عمران: 199.
[74] الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان في تأويل القرآن. تحقيق: أحمد محمد شاكر، ط1، بيروت : مؤسسة الرسالة، 2000 م، ج2، ص 406.
[75] مسلم، ابن الحجاج. صحيح مسلم.  كتاب الحيض، باب بيان صفة منى الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما، حديث رقم: 742، ج1، ص 173.
[76] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب تفسير القرآن، حديث رقم: 4352، ج14، ص339.
[77] الطبراني، سليمان بن أحمد. المعجم الكبير. تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، ط2، الموصل: مكتبة العلوم الحكم، 1983م، حديث رقم: 12429، ج12، ص45. ابن حنبل، أحمد. مسند الإمام أحمد بن حنبل. مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، حديث رقم: 2483، ج1، ص274. قال شعيب الأرنؤوط: حسن دون قصة الرعد، فهي منكرة.
[78] الحاكم، محمد بن عبدالله. المستدرك على الصحيحين. كتاب التفسير، تفسير سورة حم الدخان، حديث رقم: 3683، ج2، 487.
[79] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج2، ص 191. الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك. ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1407 هـ، ج2، ص 84.
[80] الحشر: 5.
[81] وهو بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان، ينسب إليه الخمر. الحموي، ياقوت. معجم البلدان. بيروت: دار الفكر، ج1، ص130 .   
[82] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج2، ص 191. الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك. ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1407 هـ، ج2، ص 84. البيهقي، أحمد بن الحسين. دلائل النبوة. ج3، ص 436.
[83] بارتون، بروس. التفسير التطبيقي للكتاب المقدس. سفر التثنية، الإصحاح 20، فقرة:19-20، القاهرة: شركة ماستر ميديا، 1997م، ص392-393.
[84] بارتون، بروس. التفسير التطبيقي للكتاب المقدس. سفر التثنية، الإصحاح 20، فقرة: 10-15، ص392-393.
[85] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. أبواب الجزية والموادعة، باب باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم، حديث رقم: 2998، ج3، ص 1156.
[86] ابن حجر، أحمد بن علي. فتح الباري شرح صحيح البخاري. ج10، ص 226.
[87] "لبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي"، ابن حنبل، أحمد. مسند الإمام أحمد. مسند باقي الأنصار، حديث السيدة عائشة، حديث رقم: 25079، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. ج53، 188.
[88] ابن حجر، أحمد بن علي. فتح الباري شرح صحيح البخاري. ج10، ص 226.
[89] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب الطب، باب السحر، حديث رقم: 5321، ج18، ص 53.

[90] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر، حديث رقم: 5323، ج18، ص 57.
[91] ابن حجر، أحمد بن علي. فتح الباري شرح صحيح البخاري. ج10، ص 227.
[92] الفرقان: 8.
[93] الفرقان: 9.
[94] المراغي، أحمد مصطفى، تفسير المراغي، دار الفكر، ج10ص268
[95] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، حديث رقم: 3119، ج3، ص1198.
[96] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب الطب، باب الدواء بالعجوة للسحر، حديث رقم: 5326، ج18، ص 63.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق