علاقة المسلمين مع
القبائل العربية
لقد وُصفت "قريش"
ونُعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عُبية قريش"[1]. وقال محمد: "إن الله عز
وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو
آدم، وآدم من تراب، ليدَعَنّ رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الْجِعْلاَنِ[2] التي تدفع بأنفها النتن"[3]. وقال: "أربع لا تدعهن
أمتي: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على
الميت"[4].
ونظر العربي إلى الأعرابي
نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا
قيل له: يا عربي، فرح بذلك وهشّ له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له[5]. وكالذي ذكروه مثلًا عن
"عيينة بن حصن الفزاري"، من أنه كان أحمق مطاعًا، دخل على النبي من غير إذن
وأساء الأدب فصبر النبي "على جفوته وأعرابيته"[6].
وورد في القرآن ما يفيد
أن:"الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا
حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ
يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ
اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ
فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"[7]. "قَالَتِ الْأَعْرَابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا"[8].
وقد بلغ من استعلاء الحضر
على أهل البادية، أن الأعراب لما أرادوا التسمي بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، منعوا
من ذلك، فأعلموا أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين، وعليهم التسمي بها[9].
ولما كانت المصالح الخاصة
هي العامل المؤثر في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح.
وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، كأن تعقد لغزو قبيلة، أو للوقوف أمام غزو
محتمل، أو لأجل هدف معين. ومتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ، انحل الحلف.
وهكذا كانت الحياة السياسية
ما قبل الإسلام أحلافًا تتكون وأخرى قديمة تنحل، ولا سيما إذا كانت قد تكونت من قبائل
لا رابطة دموية بينها ولا اشتراك في المواطن، وإنما كانت عوامل مؤقتة وأحوال طارئة
اقتضت تكتلها، ثم اقتضت انحلالها لزوال تلك الأسباب.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف
عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلًا، وطالما انتهت تلك الأحلاف كما انتهت عند
العرب إلى نسب، فيشعر المتحالفون أنهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد[10].
فحلف "المطيبين"
الذي عقد في مكة بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن
قصي، وإجماعهم على أخذ ما في أيدي بني عبد الدار مما كان قصي قد جعله فيهم من الحجابة
واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا، على ألا يتخاذلوا
ولا يسلم بعضهم بعضًا "ما بَلَّ بحرٌ صوفةُ". فقد تعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا
هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفًا مؤكدًا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا، فسُموا
الأحلاف.
ومن هذا القبيل حلف الفضول،
إذ تداعت قبائل من قريش إلى حلف وتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها
ومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عنه
مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
دخلت قريش قبل البعثة في مجموعة من
التحالفات لأسباب كثيرة؛ منها أسباب سياسية وتجارية واقتصادية، فعقدت تحالفات مع
سادة القبائل على امتداد طرق التجارة بين الشام واليمن لتؤمن قوافلها من
الاعتداءات، ومن أشهر تلك الأحلاف التي أبرمت قبل البعثة بقليل حلف المطيبين[11].
ومن أبرز الأحلاف التي شهدها محمد قبل البعثة، حيث تداعت من خلاله قبائل قريش
وبطونها على حلف لنصرة المظلوم[12].
وقد أثنى محمد على هذا الحلف خيرًا في قوله: "ما أحب أن لي بحلف حضرته بدار
عبد الله بن جدعان حُمر النعم، وأنّى أغدر به؟! حاتم وزهرة وتميم تحالفوا أن
يكونوا مع المظلوم ما بلّ بحرٌ صوفه، ولو دُعيت لمثله لأجبت وهو حلف الفضول"[13].
ومن أخطر الأحلاف التي شكلتها قريش بعد البعثة حلف الصحيفة، حيث تحالفت
قبائل قريش ضد بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى
يُسلموا إليهم محمدًا، وتمت محاصرتهم في شِعب أبي طالب فترة من الزمن، وانتهى
التحالف بسعي بعض العقلاء والمقربين من بني هاشم وعبد المطلب وانتهت المقاطعة[14].
فقد سعى محمد جادًّا لإقامة تحالفات
سياسية قبل الهجرة مع كثير من القبائل العربية، تمثّل ذلك بمقابلة الوفود القادمة
إلى مكة في المواسم[15]،
حيث كان يقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام
ربي عز وجل"[16]، وكان يعرض نفسه
على قبائل العرب في أيام المواسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسَلْهم مع ذلك إلا أن يروه
ويمنعوه ويقول: "لا أكره أحدًا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك،
ومن كره لم أُكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي،
وحتى يقضي الله عز وجل لي ولمن صحبني بما شاء الله"[17].
وأيضًا من خلال زيارات إلى بعض تلك
القبائل لعرض الإسلام عليها وطلب الحماية والنصرة والمحالفة، وقد حاول الرسول أن يجري
مفاوضات مع بني عامر بناءً على دراسة وتخطيط، فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا يعلمان
أن بني عامر قبيلة مقاتلة كبيرة العدد وعزيزة الجناب، بل هي من القبائل الخمس التي
لم يمسها سباء ولم تتبع لملك ولم تؤدِ أتاوة[18]،
مثلها مثل قريش وخزاعة كما أن الرسول كان يعلم أن هنالك تضادًا قديمًا بين بني عامر
وثقيف، فإذا كانت ثقيف امتنعت عليه من الداخل فلماذا لا يحاول أيضًا تطويقها من الخارج،
والاستفادة في ذلك من بني عامر بن صعصعة، فإذا استطاع النبي أن يبرم حلفًا مع بني عامر
فإن موقف ثقيف سيكون على حافة الخطر. لكن كان شرطهم للتحالف والنصرة أن يكون لهم
الأمر من بعده فرفض النبي عرضهم، فقالوا له: "أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا
أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، وأبوا عليه"[19].
ومن القبائل بنو شيبان حيث دارت
بينهم وبين النبي وأبي بكر مباحثات سياسية طويلة أوردتها كتب السير، وكان مطلب
الرسول مطلبًا واضحًا "تؤوني وتنصرونني حتى أؤدي عن ربي الذي أمرني به فإن
قريش قد تظاهرت أمر الله"[20].
وكان ردّهم أنهم يرتبطون بعهود وأحلاف مع مملكة فارس، وأنهم يرون أمر محمد مما
تكرهه الملوك فإن أحبّ أن ينصروه ويؤوه مما يلي مياه العرب فعلوا ذلك. حيث إن بني
شيبان أرادوا أن يكون هذا الحلف موجهًا ضد القبائل العربية، فلا طاقة لهم بمملكة
فارس، وهم يرتبطون معها بعهود تمنعهم من التحالف ضدهم. فلم يبرم النبي هذا التحالف
ونهض من عندهم بعد أن ردّ عليهم ردًا حسنًا بقوله: "ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق،
إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه"[21].
لم ينجح محمد في عقد تحالف مع أيٍ من
القبائل، ولعل أهم سبب هو رفض قومه له بالدرجة الأولى، فكيف يقبل شخص أن يحالف
رجلاً وقومه عليه ساخطون، فقد مكث محمد بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعُكاظ
ومِجنّة وفي المواسم بمِنى يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلّغ رسالة ربي وله الجنة؟
حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مُضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتننك،
ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع[22].
ومن أسباب عدم النجاح أن التحالف مع
محمدٍ يناقض التزامات تحالفية مع قبائل أخرى وممالك؛ ولأنه ربما التحالف معه لا
يُجدي نفعًا، لكنه مع ذلك نجح نجاحًا بسيطًا في إقناع وكسب بعض الشخصيات من قبائل
متعددة إلى الدين الجديد. كأبي ذر من قبيلة غفار، وعمرو بن عبسة من بني سلمة، والطفيل
بن عمرو من دوْس.
علاقة
المسلمين مع اليهود
يسجل المؤرخون احتكاكًا غير مباشر بين الدعوة
المحمدية واليهود من خلال كفار قريش، وذلك بأن بعثوا سفيرين لهم إلى أحبار
المدينة، ليسألوهم عن محمد وصفته، فقالوا لهما: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم
بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى
قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله، ووصفوا لهم أمره، وأخبروهم ببعض قوله،
وقالوا لهم: إنكم أهل التوراة فقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار
يهود: سلوه عن ثلاث يأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل،
فروْا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم
حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه، وسلوه عن الروح
ما هو، فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فهو رجل متقوّل فاصنعوا في
أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا:
يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن
أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به
فقال لهم رسول الله: أخبركم عما سألتم عنه غدًا، ولم يستثنِ فانصرفوا عنه، فمكث رسول
الله خمس عشرة ليلة لا يحدث الله تعالى إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام
حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدًا واليوم خمس عشرة وقد أصبحنا فيها لا يخبرنا
بشيء مما سألناه عنه، حتى حزن رسول الله مُكث الوحي عنه، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة،
ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه، وخبر ما سألوه
عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف[23].
بدأ القرآن المكي بترتيب العلاقة مع النبي مع
أهل الكتاب، فتذكر قصة موسى وأخيه هارون مع فرعون وما جرى لبني إسرائيل بسبب عدم
تقيدهم بما أوصاهم به موسى، إذ جنحوا إلى عبادة عجل من ذهب، لكن الله غفر لهم
ورحمهم حسب النص القرآني، "قالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ". هذا بالنسبة لليهود زمن موسى، أما من أتى بعدهم
من اليهود فرحمة الله لهم مشروطة بينها النص القرآني: "فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[24].
لذا فالقرآن يقرر انحراف معظم اليهود بعد موسى، وعليهم الآن أن يتبعوا دين النبي
المنعوت عندهم، والذي كُلّف به محمد بن عبد الله، وبيان انحراف معظم اليهود ورد في
"فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هَذَا الْأَدْنَى"[25].
وقوله: "خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا"[26].
لكن هنالك جماعة من اليهود لم ينحرفوا بل بقوا متمسكين بما في التوراة، وهم اليهود
الذين نصروا المسيح ورفضوا التثليث، وقد بقي من هذا التيار الذي قاده آريوس أتباع
ودعاة إلى زمن الدعوة المحمدية فكانوا من المبشِّرين بها، بيان ذلك في قوله:
"وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ"[27]. وقوله: "فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ"[28].
علاقة المسلمين مع النصارى
كان خصوم الدعوة المحمدية في المرحلة المكية
مشركي مكة، أما النصارى فلم تكن لهم حينذاك علاقة مباشرة بالدعوة، ولم يكونوا من
سكان مكة، إلا ما كان من أفراد معدودين في جنس العبيد والموالي، وقد رأينا كيف أن
قريشًا اتهمت بعضهم[29]
بأنهم كانوا يعينون الرسول، وينقلون إليه من التوراة يملون عليه ما ينقلون، وقد رد
القرآن هذا الافتراء: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ"[30].
"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ
عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا"[31].
ويذكر المؤرخون التقاءً
غير مباشر للرسول وهو غلام مع بعض الأحبار الذي اشتهر باسم "بحيرا الراهب"
أثناء سفره مع عمه إلى الشام. وزعموا أن زبيرًا وتمامًا ودريسًا، وهم نفر من أهل الكتاب
قد كانوا رأوا من رسول الله في ذلك السفر أشياء، فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكرهم
الله، وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، أنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه،
حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا[32].
وتذكر المصادر روايات تفيد أن النجاشي كان قد
أقام مدة من الزمن، ما بين مكة والمدينة، عبدًا عند قبيلة بني ضمرة، وذلك بعد أن
باعه قومه لتاجر عربي، وهو طفل صغير، للتخلص منه كوريث للعرش، ولما حصلت بعد عدة
سنين خلافات حول وراثة الملك في الحبشة، استعاده قومه وملّكوه عليهم[33].
لذا فقد كانت أرض الحبشة الملاذ الآمن لأتباع
محمد الأوائل المستضعفين، حيث قال محمد: "إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده
فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه"[34].
ولما جاء نعي النجاشي قال الرسول: "صلوا عليه قالوا: يا رسول الله نصلي على عبد
حبشي؟[35]
فأنزل الله عز وجل: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله
وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين"[36].
وتذكر المصادر أن جماعة من النصارى قدموا من
الحبشة إلى مكة فاستمعوا إلى القرآن فآمنوا وصدقوا[37]،
ربما تأثروا بالمهاجرين المسلمين، وفيهم يقال نزل قوله: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ *
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا
كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ *
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"[38].
أما عدد من اتبع دين محمد من النصارى فقد ذكرت بعض المصادر أنهم كانوا عشرة، فلما جاؤوا
جعل الناس يستهزئون بهم، ويضحكون منهم[39].
خاتمة
شكّل المجتمع العربي خليطًًا من المعتقدات
ومزيجًا من الديانات، وقد أثّر ذلك بطبيعة الحال في التصوّرات
والسلوكيات، وقد تبيّن أن الجزيرة العربية مثّلت فضاءً واسعًا لحرية الاعتقاد
ومسرحًا للدعاية والتبشير، كما أثر العامل الاقتصادي في ذلك ولعبت الطرق التجارية
العالمية دورًا هامًا في تعزيز المراكز الدينية.
كما يتضح أن المجتمع العربي لم يخلُ من حركات
دينية تصحيحية –كالأحناف-ظهرت في فترة من الفترات لتعالج بعض أو العديد من
التجاوزات التي ظهرت نتيجة تطور الأوضاع الاقتصادية التي أثّرت حتمًًا على القيم
الاجتماعية، وجاء الإسلام -كحركة تصحيحية تجديدية- فيما بعد لينقلب على الواقع
بأساليب مدهشة متدرجة، فقد كان مواتيًا ومكمّلاً لما يُعرف بالأحناف، غير أنّ
محمدًًا كما أكّد العرض قد التقى بعضهم قبل البعثة، وكان متأثّرًا بهم لدرجة أنه
مدحهم بعد البعثة ووصفهم بأنهم أحب الدين إلى الله.
ويشير العرض إلى أن المجتمع العربي قد دخلت فيه
موجات التهويد بحكم التأثر بالجوار والاختلاط، أما عن طبيعة علاقات محمد مع اليهود
قبل البعثة فلا توجد إشارات حول ذلك. وكذلك الأمر استطاعت النصرانية أن تغلغل في
صفوف المجتمع العربي، حيث امتازت النصرانية بالزهد وأعمال التبشير، ويؤكد العرض أن
قبائل عربية قد دخلت في دين النصرانية. وقد التقى محمد بعضهم وأشهرهم "ورقة
بن نوفل" الذي رأى في محمد أنه نبي آخر الزمان. وقد أُشيع أنّ محمدًًا جاء
بدعوته متأثرًا بالنصرانية، وقد فنّد القرآن هذه المزاعم.
أما عن موقف النصارى من الدعوة المحمدية خلال
المرحلة المكية فقد كان موقفًا مسالمًا إن لم نقلْ متعاطفًا كما هو موقف النجاشي،
والوفد النصراني الذي أسلم. أما عن الأديان الأخرى فقد تطرّق القرآن إليها دونما
تفصيل، كالمجوس والصابئة، إذ لم يحتكْ محمد بأيٍ منهما. أما بالنسبة لعلاقة محمد
بالقبائل العربية فقد حاول جاهدًا نشر دعوته في صفوفهم إلا أنه لم ينجح إلا في
استمالة بعض الشخصيات إلى دعوته.
ويتضح من العرض أن موقف الإسلام من "أهل
الكتاب" يهودًا ونصارى بقي مسالمًا، حتى آخر أيام المرحلة المكية من الدعوة
المحمدية، حيث كان الاحتكاك معهم ضعيفًا، والخصم الأساسي هم مشركو مكة، وكان
الخطاب القرآني السائد: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"[40].
هكذا كانت الطريقة التي سلكها الإسلام في ترتيب العلاقة بينه وبين أهل الكتاب في
المرحلة المكية، أما في المدينة فالأمر سيختلف، وسنلاحظ تغيّرًا في موقف اليهود من
محمّد وأتباعه، وسيبرز خصوم جدد للدعوة المحمدية، إضافة لمشركي مكة.
[1] ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب. ط1،
بيروت: دار صادر، ج1، ص 572.
[3] أبو داود، سليمان بن الأشعث. سنن أبي داود.
بيروت: دار الكتاب، كتاب
الأدب، باب في التفاخر بالأحساب، حديث رقم: 5118، ج 4، ص 492. قال الألباني: حسن.
[4] الحاكم، محمد بن عبد الله. المستدرك على
الصحيحين. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1990م،
كتاب الجنائز، حديث رقم: 1413، ج1، ص539.
[5] ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب. ج1،
ص 586.
[6] الزَّبيدي، محمّد بن محمّد. تاج العروس من جواهر
القاموس. ج1، ص 5724.
[7] التوبة: 97-99.
[8] الحجرات: 14.
[9] الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان في تاويل
القرآن. ج22، ص315.
[10] علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب. ج2، ص
122.
[11] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية.
ج1، ص135.
[12] ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى. ج1، ص61.
[13] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية.
ج6، ص135. الحلبي،علي بن برهان الدين. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون.
بيروت: دار المعرفة. 1400هـ، ج1، ص 213. الفاكهي، محمد بن إسحاق. أخبار مكة.
ج5، ص191.
[14] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية.
ج1، ص333. ابن كثير. البداية والنهاية. بيروت: مكتبة المعارف، ج3، ص84.
[15] وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي فقص خبر القبائل
واحدةً واحدةً فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر وغسان وبني فزارة وبني مرة
وبني حنيفة وبني سليم وبني عبس وبني نضر بن هوازن وبني ثعلبة بن عكابة وكندة وكلب وبني
الحارث بن كعب وبني عذرة وقيس بن الحطيم وغيرهم. انظر: ابن كثير. السيرة
النبوية. ج2، ص 170.
[16] الدارمي، عبدالله. سنن الدارمي. كتاب
فضائل القرآن، باب القرآن كلام الله، حديث رقم: 3354، ج2، ص 532، قال حسين سليم أسد:
إسناده صحيح.
[17] البيهقي، أحمد. دلائل النبوة. وثق أصوله:
عبد المعطي قلعجي، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1985م، ج2، ص414.
[18] التجاني، عبد القادر حامد. أصول الفكر السياسي
في القرآن المكي. ط1، عمان: دار البشير، 1995م، ص128.
[19] ابن كثير. البداية والنهاية. ج3، ص 171.
[20] ابن كثير. البداية والنهاية. ج3، ص 171.
الحلبي، علي بن برهان الدين. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون.
بيروت: دار المعرفة، 1400 هـ، ج2، ص 156.
[21] ابن كثير. البداية والنهاية. ج2، ص 168.
[22] ابن حنبل، أحمد. مسند الإمام أحمد بن حنبل.
القاهرة: مؤسسة قرطبة، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه،
حديث رقم: 14496، ج3، ص 322. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[23] ابن إسحاق، محمد. السيرة النبوية. ج1، ص70.
[25] الأعراف: 169.
[26] مريم: 59.
[27] الأعراف: 159.
[28] الصف:14.
[29] أشاروا إلى عدّاس مولى حويطب، ويسار غلام عامر بن
الحضرمي، وجبر مولى لعامر أيضًا، وكان الثلاثة من أهل الكتاب. انظر: ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي. زاد المسير. ج4، ص464.
[30] النحل: 103.
[31] الفرقان: 4-5.
[32] ابن إسحاق، محمد. السيرة النبوية. ج1، ص19.
[33] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج2، ص184.
[34] البيهقي أحمد بن الحسين. السنن الكبرى.
حديث رقم: 18190، 1344هـ، ج9، ص9. ابن كثير. البداية والنهاية. ج3، ص92. الألباني
محمد ناصر الدين. السلسلة الصحيحة. حديث رقم: 3190 ج8
ص197.
[35] النسائي، أحمد بن شعيب. سنن النسائي الكبرى.
حديث رقم: 11088، ج6، ص 319. الألباني، محمد ناصر الدين. السلسلة الصحيحة.
حديث رقم: 3044، ج8، ص 51.
[37] ابن هشام. عبد الملك. السيرة النبوية. ج2، ص237. ابن كثير.
السيرة النبوية. ج2، ص40. ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص103.
[39] ابن الاثير، علي بن محمد. أسد الغابة في معرفة
الصحابة. ج2، ص 288. السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر. الدر المنثور في التأويل
بالمأثور. ج7، ص 500. البخاري، محمد بن إسماعيل. التاريخ الكبير. ج6،
ص375.
[40] الفرقان: 46.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق