الجمعة، 1 يناير 2016

المجتمع العربي والأديان (2)

اليهود
سكن اليهود في مواضع عديدة معروفة تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن وفي اليمامة. وكان تجار منهم يقيمون في مكة وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب للاتجار وإقراض المال بربا فاحش للمحتاجين إليه. ولم يترك يهود جزيرة العرب لهم أثرًا مكتوبًا يتحدث عن ماضيهم فيها. كذلك لم يصل إلينا أن أحدًا من المؤلفين والكتبة العبرانيين ذكر شيئًا عن يهود الجاهلية. وليس لنا من تأريخ اليهود في جزيرة العرب إلا في القرآن ومؤلفات المسلمين من كتب حديث وسِير وأخبار[1].
ويذكر ابن هشام قصة تهوّد اليمن بأسرها. فقد كان تُبَّع حمل حَبرين من أحبار يهود إلى اليمن. فأبطل الأوثان، وتهوّد مَن باليمن، وتهوّد قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير[2].
ويذهب اليعقوبي إلى أن يهود شبه الجزيرة العربية من أصول عربية، أي أنهم عرب تهوّدوا[3]. ومن أسباب تهوّد بعض العرب أن المرأة إذا كانت مقلاتًا - قليلة الولد- في الجاهلية تنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم[4]، وذكر المؤرخون أيضًا أن ناسًا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني قريظة وغيرهم من يهود، فتهوّدوا، وأن من الأنصار من رأى في الجاهلية أن اليهودية أفضل الأديان، فهوّدوا أولادهم، فقد كان إذًا بين يهود جزيرة العرب عربٌ دخلوا في دين يهود[5]. والظاهر أن بعض الشخصيات تهوّدت إما بتأثير التبشير، وإما باختلاطها ودخولها في عشائر يهودية جاورتها فتأثرت بديانتها.
وثمة رأي يذهب إلى أن اليهودية كانت دين ملوك حمير في اليمن في القرن الخامس الميلادي، ولكن هذا الادعاء يفتقر إلى التوثيق. ومن المعروف أن الصراع على طرق التجارة بين البيزنطيين وحلفائهم الأحباش من جهة، ومن جهة أخرى الحميريين ممن كانوا قد سيطروا على الممالك العربية في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، كان قد أخذ طابعًا دينيًا. وقد تهوّد الملوك الحميريون وربما بعض أعضاء النخبة الحاكمة وبعض أفراد الشعب، لكن تهوّدهم كان شكلاً من أشكال الرفض السياسي والرغبة في تبنِّي عقيدة دينية مستقلة تضمن لهم شيئًا من الهيبة والاستقلال، كما فعلت النخبة الحاكمة في دولة الخزر الوثنية. فاعتناقهم اليهودية آنذاك كان يعني التصدي لمحاولات التسلط من قبل الإمبراطورية الرومانية الشرقية على أطراف شبه الجزيرة العربية عن طريق المبشرين الذين جرى بثهم بين أهل الحضر وأهل البادية دون أن يخشوا على أنفسهم من أية تبعية سياسية إذ لم يكن لليهود آنذاك دولة[6].
لم يكن اليهود كتلة واحدة متماسكة من الناحية السياسية، فقد اتحد بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس ضد بني قينقاع الذين انضموا إلى الخزرج. وانعكست الصراعات بين الأوس والخزرج على قبائل اليهود. وحين دخلت قبائل يثرب وبطونها معركة ضارية في يوم بُعاث، حارب بعض قبائل اليهود ضد البعض الآخر، وبالغ بنو النضير وبنو قريظة في قتل أفراد بني قينقاع[7].
أما عن مدى طبيعة احتكاك محمد ببعض اليهود في مكة قبل النبوة أو بعدها، فسيأتي تفصيله في باب علاقة الإسلام مع اليهود.
النصارى:
إن دخول النصرانية إلى الجزيرة العربية كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة، وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة. أما هجرة نصرانية كهجرة يهود إلى الحجاز أو اليمن أو البحرين، فلم تحدث، ذلك لأن النصرانية انتشرت في إمبراطورية الروم والساسانيين بالتدريج، ثم صارت ديانة رسمية للقياصرة والروم وللشعوب التي خضعت لهم، فلم تظل النصرانية أقلية هناك، لتضطر إلى الهجرة جماعة وكتلة إلى بلد غريب[8].
دخلت بعض القبائل في النصرانية بسبب أعمال دينية، كالدعاء بإنجاب ولد، أو شفاء من أمراض، وقد أثرت الأديرة تأثيرًا مهما في تعريف التجار العرب والأعراب بالنصرانية. فقد وجد التجار في أكثر هذه الأديرة ملاجئ يرتاحون فيها ومحطات يتجهزون منها بالماء[9].
وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم: عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد، ومن بني تميم بنو امرىء القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة بنو تغلب، ومن اليمن طيء، ومذحج، وبهراء، وسليح، وتنوخ، وغسان، ولخم[10].
وتعد طيء من القبائل التي وجدت النصرانية سبيلاً إليها، قد كان عدي بن حاتم الطائي في جملة الداخلين في النصرانية من طئ وفَد على الرسول، وأعلن إسلامه. غير أن هذا لا يعني أن النصرانية كانت هي الغالبة على هذه القبيلة، فقد كان قوم منها يتعبدون للصنم "الفُلس"، أي على الشرك[11].
وكان بين سكان مكة عند ظهور الإسلام جماعة من النصارى هم من الغرباء النازحين إليها، لأسباب، منها: الرق، والاتجار، والتبشير، والحرفة. من هؤلاء رجل نصراني كان بمكة قيل إن اسمه: سلمان الفارسي، أو يسار، أو جبر، أو يعيش، أو بلعام، ادعى أهل مكة أنه كان هو الذي يلقن محمدًا[12]. وقد أشير إلى قول قريش هذا في الآية: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ"[13]. ومن روى من المفسرين أن اسمه جبر، قال: إنه كان غلامًا لعامر بن الحضرمي، وأنه كان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان الرسول يجلس إليه عند المروة فكانوا يقولون والله ما يَعلم محمد كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام الحضرمي[14].
لم تكن النصرانية قوية في المدينة، وإن جاليتها لم تكن كثيرة العدد فيها. غير أن هذا لا يعني عدم وجود النصارى في هذا الموضع الزراعي المهم. كما كان في مكة رقيق وموالي يقومون بخدمة ساداتهم، كذلك كان في المدينة نفر منهم أيضًا يقومون بمختلف الأعمال التي يعهد أصحابهم إليهم القيام بها. ولا بد أن تكون لهذه الطبقة من البشر مكانة في هذه المدينة وفي أي موضع آخر من جزيرة العرب. وذكر أن النصارى كانوا يسكنون في يثرب في موضع يقال له: سوق النبط[15].
وعُدّ ورقة بن نوفل في جملة المتنصرين في بعض الروايات، فقد ذكر إنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب، ومات عليها"[16].
فكان ورقة بن نوفل قد قرأ الكتب وطلب العلم، ورغب عنِ عبادة الأصنام، وبشر خديجة بالنبي، وأنه نبي هذه الأمة، وأنه سيؤذى ويكذبُ، ولقي النبي، وقد اختلف فيه: فمنهم من زعم أنه مات نصرانيًا، ولم يدرك ظهورَ النبي، ولم يتيسر له أمره، ومنهم من رأى أنه مات مسلمًا[17].
"وكان امرَأً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمِي. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله: أوَ مخرجي هم؟! قال: نعم. لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومُك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن تُوفي وفتَر الوحي"[18].
ومما ورد من أقوال النبي محمد في حقّه: "لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له الجنة أو جنتين"[19].
وممن ذُكر أنه على دين النصارى عبيد الله بن جحش الأسدي حينما خرج مع ورقة بن نوفل إلى الشام في صحبة زيد بن عمرو في رحلة البحث عن دين صواب. فالواضح أن عبيد الله بن جحش كان دين النصرانية أقرب إليه، ويبدو أن إسلامه واتباعه لدين محمد كان وسيلة للوصول إلى أرض الحبشة، فبمجرد وصوله إليها تنصّر وفارق الإسلام، فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيًا[20].
وممن التقى بهم محمد من النصارى عداس يوم رجوعه من الطائف، وكان من حوارهما سؤال محمد: من أي أرض أنت يا عداس؟ قال: من أهل نينوى. فقال له: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس. فلما أخبره خرّ عداس ساجدًا لرسول الله، وجعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء. فلما أبصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه؟ قال: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى فضحكا به. وقالا: لا يفتنَّك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع، فرجع رسول الله إلى مكة[21].  
الصابئة:
وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى "صبأ"، أي مال وتأثر بشيء ما. وكانت قريش تسمي النبي صابئًا وأتباعه الصّباة. أي الخارجين على دين قومهم. وهي تستعمل لفظة الصابئة في كثير من الأحوال في معنى حنفاء، كالذي نراه في ربطهم إبراهيم بهاتين الديانتين، وعدّهم قدماء الصابئة في جملة الحنفاء، فإن هذا يدل على أن المراد من الصابئة بين العرب عند ظهور الإسلام هم المنشقون الخارجون على ديانة قومهم، أي على عبادة الأوثان والمنادين بالتوحيد. وأما ما نراه من إطلاق الصابئة على الصابئة المعروفين في الإسلام، فإنما حدث في الإسلام.
وإطلاق قريش لفظة الصابئ والصباة على المسلمين بدلاً من تسميتهم بمسلمين قضية مهمة جدًا، يجب الاهتمام بها[22]. وقد اعتبر القرآن الصابئين[23] فرقة مقبولة بشروط: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم و خوف عليهم ولا هم يحزنون"[24].
لا يوجد مصدر يؤكد احتكاك محمد مع الصابئة أو المجوس، إذ كانت جزيرة العرب آنذاك خالية من عبادة النار، ويُذكر أن عبدة النار قد تحولوا في الجزيرة إلى يهود أو نصارى[25]. ومما ذُكر أن سلمان الفارسي –أحد صحابة محمد- كان في الأصل مجوسيًا.




[1] علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب. ج12، ص 87.
[2] راجع تفاصيل القصة انظر: ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. تحقيق: طه عبد الرؤوف، بيروت: دار الجيل، 1411هـ، ج1، ص133.
[3] اليعقوبي، أحمد. تاريخ اليعقوبي. ج1، ص101.
[4] أبو داود، سليمان بن الأشعث. سنن أبي داود. بيروت: دار الكتاب العربي، كتاب الجهاد، باب في الأسير يكره على الإسلام، حديث رقم: 2684، ج3، ص 11. قال الألباني: صحيح..
[5] علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب. ج12، ص91.
[6] المسيري، عبد الوهاب. موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية. ج11، ص19.
[7] المسيري، عبد الوهاب. موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية. ج11، ص22.
[8] علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب. ج12، ص 163.
[9] علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب. ج12، ص 165.
[10]  اليعقوبي. أحمد بن إسحاق. تاريخ اليعقوبي. ج1، ص 101.
[11] الواقدي، محمد بن عمر. المغازي. تحقيق: مارسدن جونس، بيروت: عالم الكتب، ج1، ص7.
[12] الجوزي، عبد الرحمن بن علي. زاد المسير في علم التفسير. ج4، ص127.
[13] النحل: 103.
[14] الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان في تأويل القرآن. تحقيق: أحمد شاكر، ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة، 2000م، ج17، ص299. ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج2، ص238.
[15] علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب. ج12، ص 178.
[16] اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج1، ص101.
[17] المسعودي. مروج الذهب. ج1، ص 25.
[18]  البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. كتاب بدء الوحي، حديث رقم: 3، ج1، ص5.
[19] الحاكم، محمد بن عبدالله. المستدرك على الصحيحين. كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، باب ذكر نبي الله وروحه عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما، حديث رقم: 4211، ج2، ص 666. قال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم. الألباني، محمد ناصر الدين. السلسلة الصحيحة. الرياض: مكتبة المعارف، حديث رقم: 405، ج1، ص761.
[20] ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج1، ص222. ابن كثير. البداية والنهاية. ج2، ص 416.
[21] الذهبي، محمد بن أحمد. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري. ط1، بيروت: دار الكتاب العربي،1987م، ج1، ص283.
[22] علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب. ج12، ص 278.
[23] في الصابئين سبعة أقوال: أحدها: أنه صنف من النصارى ألين قولاً منهم، وهم السائحون المحلَّقة أوساط رؤوسهم، روي عن ابن عباس. والثاني: أنهم قوم بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين، قاله مجاهد. والثالث: أنهم قوم بين اليهود والنصارى، قاله سعيد بن جبير. والرابع: قوم كالمجوس، قاله الحسن والحكم. والخامس: فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، قاله أبو العالية. والسادس: قوم يصلون إلى القبلة، ويعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، قاله قتادة. والسابع: قوم يقولون: لا إِله إلا الله فقط، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، قاله ابن زيد. ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي. زاد المسير في علم التفسير. ج1، ص74.
[24] البقرة: 62.
[25] انظر تفاصيل الخبر. ابن هشام، عبد الملك. السيرة النبوية. ج1، ص146.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق