نقد الفكر الديني (1)
بقلم إياد محمّد أبو ربيع
حصر فهم النصوص في زمن مُعيّن
وقد استند التقليديون للتأصيل لهذه النظرية إلى أدلة ملخصّها أن الصحابة هم ألصق
وأقرب الناس بالوحي، وأعرف الناس باللغة. وقد أجازوا الإتيان باجتهادات جديدة لكن في
الأمور المستجدة التي لم تكن من قبل.
الإشكالية الأولى: الخلط بين التقوى والعلم.
يدندن التقليديون حول فكرة أن الصحابة هم أقرب الناس إلى الوحي، فهذا يجعلهم أتقى
الناس وأعلمهم، لكن حقيقة القول بأنهم اتقى الناس لا يجعلهم أعلم الناس، فالعلم كما
هو معلوم إنما يكون بالتعلّم، وقد وردت روايات تفيد أن مشاهير الصحابة قد كانت تغيب
عنهم أشياء وأحكام، ووقع الخطأ من بعضهم في فهم بعض النصوص، فمن علِم من الصحابة حُجة
على من لا يعلم منهم، لذا فالصحابة أنفسهم على درجات في العلم.
ثم إن الصحابة أنفسهم قد اختلفوا في مسائل كثيرة بعد التحاق الرسول النبي صلى الله
عليه وآله وسلّم إلى الرفيق الأعلى وفي حياته أيضًا بعض هذه الاختلافات تعتبر من باب
التنوّع وبعضها يُصنّف على أنه اختلاف تضاد خصوصًا فيما يتعلق في تحديد الأزمنة أو
الأمكنة لحوادث معينة، وقد كانت الاختلافات في الأحكام وأيضًا في مسائل الاعتقاد وإن
كانت الأخيرة قليلة.
لذا فإننا نجد في المسألة الواحدة أكثر من قول سواء المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين،
وبعد ذلك نرى المذاهب الإسلامية على تعددها تنسب أصول أدلتها إلى أقوال بعض أهل البيت
أو الصحابة أو التابعين أو روايات تنسبها إلى الرسول النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلّم.
وبعد أن ظهرت المذاهب والفِرق، ساد القول
لدى معظم العلماء [اختلاف الأمة رحمة] وهو أثر لا يثبت، فأي مذهب يُتبع فلا بأس. وكانت
الإشكالية هي أن الاختلافات بين المذاهب التي تأسست على الروايات في غالبها متعارضة
ومتشاكسة، وهي في النهاية تُنسب إلى دين الله تعالى الذي لو كان من عند غيره لوُجد
اختلافًا كثيرًا.
والناس بعد ذلك بين متبع لمذهب إما تقليدًا أو بعد دراسة وبحث وتنقيح، أو شرطًا
لقبوله كمُدرس أو زوجًا لابنة صاحب مذهب آخر، أو ربما إكراهًا أو خوفًا، وبعض الناس
من يبحث عن الحكم الأسهل وبعضهم على النقيض يبحث عن الأشد، وبعضهم يأخذ بالمشهور، وبعضهم
يبحث عن المهجور أو الشاذ من الأقوال.
لذلك فقد قام بعض التقليديين للتصدي لهذه الإشكالية، فأسسوا مدرسة الإسناد، وخففوا
تلك الاختلافات إلى عدد أقل وفق ترجيح الأقوال من خلال علم الرجال، والحق يقال إن هذه
المدرسة شكّلت منهجًا مميزًا حيث ساهمت في تقليل الخلافات، إلا أن الإشكالية ما زالت
قائمة لكن من باب آخر.
فمدرسة الإسناد (أهل الحديث) وإن حلّوا إشكال الاختلافات المتناقضة بين المذاهب،
إلا أنهم دخلوا في إشكالية جديدة وهي الاعتماد على الرجال، وهم أيضًا متشاكسون ومتناقضون،
فهم لم يزيدوا على أن قللّوا الاختلافات عددًا لا منهجًا، لذا فإذا رُمنا علاجًا لتكلم
الإشكالية كان لزامًا علينا أن نجعل القرآن الكريم هو الحاكم على أي رواية أو أثر،
وإن كان هناك أكثر من رأي في مسألة ماـ ولفظ القرآن الكريم يحمل ذلك من غير أن يتعارض
مع آيات أخرى، فليكن هذا التنوع في الفهم فهو مقبول.
الإشكالية الثانية: حصر الخيرية في زمان معين.
تشكّل هذه الإشكالية أساسًا عند التقليديين فعندهم لا خير لشباب وشابات الأمة إلا
بما كان عليه المسلمون في الثلاثة القرون الأولى، ويوهمون المخاطبين بأن الناس كانوا
في تلك الفترة على أفضل صورة، والحقيقة أن رواية (خير الناس قرني والذين يلونهم..)
تُنبئ عن الذهنية السائدة آنذاك وهي توقّع قُرب قيامة الساعة، وعلامتها الصغرى ومنها
تفشي الجهل وظهور البدع وموت العلماء بانتزاعهم. فالخير سيتلاشى وسيقلّ مع الأيام،
والحقيقة أن القرآن الكريم وهو القول الفصل قد ربط الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر والإيمان بالله تعالى: "كنتم خير أُمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". آل عمران: 110. فالحديث علّق الخيرية على "الأعمال" لا على الأقوال ولا على الرجال حيث ورد فيها: "ثم يَتَخَلَّفُ من بَعْدِهِم خَلًفٌ تَسْبِقُ
شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه" فالخيرية كذلك في القرآن الكريم غير مرتبطة لا
بمكان ولا بزمان. بل مرهونة بالعمل والإيمان.
الإشكالية الثالثة: الفهم المخالف لما فهمه السلف من النص يَنسب الأمة إلى الجهل
والخطأ في القرون المفضَّلة.
يخوّف التقليديون المخاطبين بأن الفهوم الجديدة لأحكام الإسلام أو لتفسير القرآن
الكريم ستحكم على سلف الأمة بالجهل..وهذا التخوّف والتخويف غير مقبول طالما أن الفهم
الجديد يتبع منهجًا صارمًا، فالاستنباطات الجديدة وإن خالفت الفهوم السابقة فلا يعني
ذلك أن السلف غير قادرين على تلك الاستنباطات، بل إنهم لم يستخدموها في بعض المسائل،
لذا نرى بعض العلماء فيما بعد الثلاثة القرون تفردوا باستنباطات كابن تيمية (ت:728هـ)،
ومع ذلك نرى التقليديون يُبجلونهم ولا يقولون ببدعتهم وذلك لأسباب يعرفها المختصون.
وإن كانت بعض الفهوم الجديدة فعلاً مخالفة للسلف كونها على غير منهج صارم فهي مرفوضة
لا لأنها جديدة، بل لفقدانها المنهج الصارم..وهذا المنهج باختصار هو حصر النصوص المعتمدة
وكيفية فهمها.
أولاً: القرآن الكريم وكتاب محفوظ ويتم فهمه من خلال لغة العرب، ورد آياته إلى
الآيات ذات الموضوع الواحد.
ثانيًا: النقولات والروايات لا بد من فهم دلالتها وفق اللغة العربية، وردّ الروايات
إلى المماثلة ذات الموضوع الواحد، وبعد ذلك عرضها على القرآن الكريم. فإما أن تتوافق
وتنسجم معه، وإما تناقضه وتعارضه.
ثالثًا: أقوال أهل البيت أو الصحابة والتابعين فتعرض على القرآن الكريم. فالقرآن
الكريم في المحصّلة هو الحاكم وهو القول الفصل على أي رواية. وهذا لا يعني الاقتصار
على القرآن الكريم وحصر فهم الدين من خلاله.
وأخيرًا فإن جُلّ الجماعات والأحزاب المسلمة وحتى المفكرين من المسلمين يقولون
بضرورة الحكم بكتاب والسُنّة بفهم سلف الأمة، والحقيقة أن هذا الشعار لا بد من إعادة
صياغته من جديد ليُصبح كالآتي:
[الاحتكام إلى كتاب ربّ العالمين
وأحاديث النبي الأمين بفهم العلماء الربانيين].
فهؤلاء العلماء الربانيون متوفرون في كل زمان ومكان، فلا يخلو زمان من عالم حُجة
على الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق