البخاري لا إفراط ولا تفريط (3)
بقلم: إياد محمّد أبو ربيع
يحاول بعض "المثقفين" من باب الحرص على الدين،
نفيَ أن يكون كتاب البخاري المتداول اليوم بين أيدي المسلمين والباحثين للكاتب الإمام
محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256هـ).
وإذا رمنا تحقيق هذه المسألة علميًا فإنه ينبغي
النظر فيما يلي:
أولاً: الكاتب
وهو الإمام محمد بن إسماعيل البخاري
(ت: 256 هـ). ومن ينكر وجوده فهو واهم. ولستُ بحاجة إلى إثبات هويته. وليكن
معلومًا إن ما قيل في ترجمة الإمام وسيرته لا يخلو من مبالغات وحكايات لا تصحّ
يعرفها الدارسون فضلاً عن "أهل الاختصاص".
ثانيًا: الوثيقة
وهي محتوى كتاب الإمام البخاري،
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الوثيقة الأصلية (النسخة الأمّ).
لا يمكن الجزم بأن ثمّة نسخة بخط يد الإمام البخاري
موجودة الآن، وربمّا يكشف عنها قابل الأيام بين طيّات الكتب المطمورة المجهولة. أو أنها فُقِدت وانتهى أمرها.
لذا فالكلام عن الوثيقة الأصلية حاليًا غير وارد، ويبقى الكلام عن "النُّسَخ" التي نُسخت عن كتاب البخاري الأم ونُقلت عنه.
وإذا اعتمدنا قول ابن حجر (ت 852هـ) عن المُستملي (ت:
376هـ): "انتسختُ كتاب البخاري من أصله (نُسخة)، كما عند ابن يوسف (الفربري ت:
320هـ)، فرأيته لم يتمّ بعد، وقد بقيت عليه مواضع مبيّضة كثيرة، منها: تراجم لم
يثبت بعدها شيئًا، ومنها: أحاديث لم يترجم عليها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض"[1].
فإذا صحّت هذه الرواية فأمامنا احتمالات بالنسبة
لنسخة الفربري:
1- هي
النُّسخة الوحيدة المتبقية وهي غير مكتملة الإعداد والإخراج كما هو ظاهر الرواية.
لكن ترد في كتب التراث
روايات تفيد أن البخاري لما صنّف كتابه (الصحيح) عرضه على ابن المديني، وأحمد ابن
حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي:
والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"[2].
وهذه الحكاية في صحتها
نظرٌ من ناحية وجود الجهالة في سندها ثم من ناحية وجود عدد من الأحاديث قد ضعفها
العقيلي في الضعفاء مع وجودها في ((صحيح)) البخاري.
وإذا قبِلنا بالجزء
الأول من الرواية: (عرضه على ابن المديني، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين) فهذا يفيدنا في تقدير تاريخ كتابة البخاري لكتابه فإن أولهم وفاةً هو يحيى بن معين (ت: 233هـ)،
وعلى فرض أن الكتاب عرض عليه قبل عام من وفاته (232هـ) فهذا يعني أن البخاري كان
عمره (38) عامًا، حيث ولد (194هـ)، وحسْب الروايات فقد استغرق في تدوين كتابه (16)
عامًا، فيكون عمر البخاري وقت الابتداء بالتدوين (22) عامًا في عام (216هـ).
فمن الممكن جدًّا أن
يكون الإمام البخاري قد أنهى كتابه وأخرجه ثمّ أطلعه على علماء مقرّبين منه. وعليه
يستبعد الاحتمال الثالث.
2- هي
نسخة من نُسخ عديدة عن كتاب البخاري الأمّ.
وهذا هو الاحتمال الأقوى، وهذا يعني أن نسخة الفربري لم تكن مكتملة الإخراج، ولكنها في الوقت ذاته
هي الأكثر اعتمادًا لدى المحدثين. وليس بين أيدينا وثيقة عنها. سوى نقولات
المحدثين.
3- كتاب البخاري الأمّ لم يتم تجهيزه وإعداد إخراجه.
وهذا الاحتمال يستبعد كما بيّنّا.
وعليه فإن هذه النُّسخة لم تكن الوحيدة المتبقية استنتاجًا، كما أنها ليس مكتملة الإعداد من ظاهر الرواية.
المطلب الثاني: محتوى النسخ والروايات
وإذا ظهر لنا العجز عن إثبات الوثيقة الأم، وجب علينا
النظر في محتوى
النسخ التي تمّ نسخها وتناقلها عن الوثيقة الأم.
فإذا استطعنا أن نرجع إلى كتاب صُنّف في الروايات
قبل الإمام البخاري، فلا يصحّ التشكيك في محتوى كتاب البخاري. ولنلقَ نظرةً على
موطأ الإمام مالك وهو من أقدم الكتب والمصنفات في الروايات والأحاديث.
إن موطأ الإمام مالك
(ت: 179 ه) فوفق رواية يحيى الليثي (152 هـ - 234 هـ) وهي
الرواية الأشهر فقد فبلغ عدد الروايات (1891) روايةً بترقيم
فؤاد عبد الباقي.
لقد روى الإمام
البخاري عن الإمام مالك: (644) روايةً. وذكر لبعض هذه الروايات متابعات عن شيوخه،
وللبعض الآخر عن شيوخ شيوخه، لذا قد يصبح عدد ما رواه البخاري بهذا الاعتبار أكثر
من (668) روايةً. جاءت على النحو الآتي:
(20)
روايةً غير واضحة، عن طريق 3 من الرواة. بنسبة: 2.99%.
(44)
روايةً شفاهيةً، عن طريق 13 من الرواة. بنسبة: 6.59%.
(604)
روايةً كتابيةً، عن طريق 11 من رواة الموطأ، منهم (4) من أصحاب النسخ المشهورة.
بنسبة: 90.42%[3].
وهذا يدلّ على أن الروايات التي وردت في كتاب البخاري
لها أصل سابق عليها، ولم تُضفْ على كتابه لاحقًا كما يزعم بعض "المثقّفين".
وإلا لكان لازم زعمهم
أن كتاب الموطأ أيضًا لا أصل له، فيصل بهم هذا الزعم إلى إنكار القرآن الكريم، إذ لم
توجد حتى الآن النسخة الأصلية للقرآن الكريم.
وإذا نظرنا إلى من
عاصر الإمام البخاري نجد أعظمهم الإمام مسلم وهو تلميذه (ت:261هـ)، وهو من صنّف
أيضًا كتابًا في الأحاديث نراه قد اتفق مع البخاري (المتفق عليه) في (2514) روايةً.
فهل أيضًا كتاب مسلم لا أصل له، ولا يُنسب إليه؟!.
رُحماك ربّي رُحماك.
وإذا عُدنا إلى فترة
ما بعد الإمام البخاري نجد أن أقدم شرح لـ"صحيح" البخاري هو شرح الإمام
الخطَّابي(ت: 288هـ)، المسمى بـ أعلام الحديث، وهو مطبوع الآن في أربعة مجلدات.
ويليه تاريخيًا من كتب
الشروح شرح ابن بطّال (ت: 449هـ)، ونقل عنه الحافظ ابن حجر (ت: 852هـ) كثيرًا في كتابه فتح الباري.
كما أن الحافظ أبو بكر
الإسماعيلي (ت: 371 ه) له كتاب المستخرج على صحيح البخاري وهو مطبوع الآن.
ومن يتصفّح كتاب
الفهرست المشهور لصاحبه النديم (ت: 388هـ) يجد أنه نسب الكتاب للبخاري.
وقد ثبت أيضًا أن ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ) قد تحصّل
على بعض النسخ لبعض الروايات التي أوردها البخاري في كتابه. حيث قام بدراستها وتحقيقها.
فالقارئ الحصيف يوقن بلا ريْب أن محتوى كتاب البخاري له أصل سابق عليه، ومعاصر له، وشارح له فيما بعد، فلا يصحّ
إنكار نسبة الكتاب إلى كاتبه الإمام البخاري، ولا إنكار محتواه والزعم بأن أيادٍ خارجية
مشبوهة قد صنعت الكتاب لغرض خبيث. فمن ينفي نسبة الكتاب للبخاري فإنه حتمًا ينفي كل التراث
ولا يقف عند ذلك بل يصل إلى نفي القرآن الكريم. وإن لم يُظهر هذا. وإلا بقي احتمال أخير وهو الجهل القاتل.
ومما يجدر بيانه أن النُّسّخ التي نسخت عن كتاب
الإمام البخاري الأم المفقود حاليًا؛ هذه النُّسخ لا تخلو من أخطاء وأوهام، لكن
هذه الأوهام الحملة فيها على النُّسّاخ فهذه شهادة للإمام أبو علي الجياني (ت: 498هـ) يكتب فيها: "والحمل
فيها على نقلة الكتابين عن البخاري ومسلم وأنه قد يندر للإمامين مواضع يسيرة من
هذه الأوهام، أو لمن فوقهما من الرواة"[4].
وهذه
الأوهام يمكن إجمالها كالآتي:
·
الأوهام
والتصحيفات الواقعة لرواة الصحيح في أسانيد الكتاب.
·
الأوهام
والتصحيفات الواقعة في متون الروايات.
·
اختلاف
الروايات في تعيين أسماء شيوخ البخاري أو الوهم في أسماءهم عند بعض الرواة.
·
اختلاف
الروايات في صيغ التَّحمُّل والأداء.
·
اختلاف
الروايات في عناوين الكتب والأبواب إثباتًا وحذفًا وتقديمًا وتأخيرًا.
·
اختلاف
الروايات في بعض الألفاظ اللغوية.
لذا لا بد من التأكيد على أن كافة طُبْعات ((صحيح
البخاري)) ينقصها المزيد من التوثيق، كما ينقصها العناية برواياته المختلفة[5].
أخيرًا... أرجو ممن يعمل على تحقيق التراث أن يتحلّى بالصبر والبحث العميق، فالعلم لا يجامله حُسن النوايا، ولا يناله إلا من أعطاه كلّه.
بوركتم
جميعًا
ولكلّ
مجتهدٍ نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق