كتاب البخاري لا إفراط ولا تفريط
يكثُر في هذه الأيّام الحديث عن كتب
التراث وبالأخصّ كتاب البخاري بالتزامن مع تصرّفات "داعش". وبدأت أصوات
تعلو وتجهر في الكلام عن كتاب البخاري، ما بين مقدّس مصدّق لما بين دفّتيْه، وبين
مُكّذب لما في الكتاب وضاربٌ به لائذٌ بالقرآن فحسب، وبعض أصوات تنادي بالتشكيك في
صحة نسبة الكتاب للإمام البخاري -رحمه الله تعالى- من
الأصل!!
وفي هذه اللحظة فإني أودّ أن أبيّن بعض الأمور فيما
يخص كتاب البخاري. على شكل نقاط أرجو فيها النفع، فإني لا أتهيّب نقد أي كتابٍ،
ولا أرجو سوى الحق والحقيقة.
أوّلاً:
الإمام البخاري –رحمه الله تعالى- بشر.
لا ريْب أن القائل بصحّة كل ما ورد في
البخاري والنابذ له بالكليّة إنما هو من الغالِين غير المُنصفين. بل الدراسة
النقدية والعلمية تحتّم على كل مسلم حصيف أن يقرّ بأن ليس كلُّ ما ورد في البخاري
صحيحًا. وإن أطبقت الأمة على تلك المقولة. فالبخاري -رحمه الله تعالى- بشر يصيب
ويخطئ.
وقد ثبت أن كتاب البخاري قد تعرّض لانتقادات
من بعض العلماء اللاحقين قد ألّفوا كتبًا في ذلك وهم:
الحافظ أبو بكر الإسماعيلي ت: 371 هـ.
الحافظ أبو الحسن الدارقطني ت: 385.
الحافظ عبد الغني الأزدي ت: 409 هـ.
الحافظ أبو علي الجياني الغساني ت: 498 هـ.
الحافظ أبو الحسن بن القطّان الفاسي ت: 628هـ.
الحافظ أبو مسعود الدمشقي ت: 662هـ.
الحافظ ابن
تيمية ت: 728 هـ. نقد حديثًا
واحدًا.
وقد بلغ مجموع تلك النقودات (104) حديثًا انفرد بها
البخاري، و(52) حديثًا متفق عليه.
لذا فلا داعي لترديد القول بأن [كلّ ما في كتاب البخاري صحيح].
وينبغي وقف هذا الملف وإلى الأبد.
ثانيًا: الانتقادات كانت للسند لا للمتن.
معظم النقودات التي تعرّض لها كتاب
البخاري كانت منصبّةً على (الأسانيد)، و(الرواة) مثل انتقادات ابن القطّان حول
راوٍ مختلط أو مُدلّس، لكن من خلال تتبع العلماء فقد ثبت أن البخاري قد خرّج طرق
الروايات هذه من المختلط قبل اختلاطه، ومن تصريح المدلّس.
وانتقادات الدراقطني بعض الأحاديث بمخالفة راوٍ لمن
خرّج له البخاري، ثم تبيّن أن هذا الراوي ضعيف أو ليس في وزن مخالفه.
ونجد أيضًا أن بعض الانتقادات تراجع
المنتقِد عن انتقاده في ذات الباب أو في باب آخر. وبعضها وردت على وجه الاحتمال. وبعضها الوهم فيها يسير جدًا،
كانتقادهم لاسم راوٍ، وهِم فيه البخاري، مع تصحيحهم لذاك الطريق. وبعضها كانت من باب الاضطراب، لكن أمكن إيجاد
الجمع، وبعضها نقد لروايات أُعلّت بالوقف أو بالتدليس أو الإرسال. وقد كانت أكثر
الأحاديث المنتقدة قد صحّت من طرق أخرى إما عند البخاري أو عند غيره. انظر
التفاصيل. باحو، مصطفى، الأحاديث المنتقدة على الصحيحين.ج1، ص56.
لذا فقد كانت الانتقادات على "الإسناد"
لا "المتن". إذ المتون المنتقدة فقليلة جدًا ولبعض أو طرف المتن لا كلّه.
ثالثًا: التفريق بين أصول الباب والشواهد والمتابعات.
مما ينبغي معرفته أن في كتاب البخاري
هناك روايات تعتبر أصل في الباب "أصول"، وهناك روايات تأتي في
مرتبة أقل تُعرف بـ "المتابعات" و"الشواهد"، وهذه يتساهل
البخاري في أسانيدها. إذ قد يكون في إسنادها انقطاع أو راوٍ فيه مقال.
رابعًا: في كتاب البخاري روايات للصحابة والتابعين إذ
ليس كلّه أحاديث نبوية.
كتاب البخاري ليس كل ما ورد فيه أحاديث
قالها الرسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي آراء لبعض الصحابة (الموقوف)
أو التابعين(المقطوع). ولم أقف على مجموع عدد الروايات الموقوفة والمقطوعة.
خامسًا: بعض الروايات لم تتوفر فيها على شروط البخاري
"الراويات المعلّقة".
فإذا كان عدد الروايات في البخاري حسب ترقيم محمد
فؤاد عبد الباقي بلغت بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات (7593) روايةً، فقد بلغت
الروايات (المعلقة) (1341) روايةً.
سادسًا: بعض الروايات يعيد البخاري تدوينها في أبواب
أخرى لفائدة يراها
لذا فالروايات من غير
المكرّر بحسب تعداد ابن حجر العسقلاني هو (2961) روايةً.
سابعًا: الروايات المُدلَّسة في كتاب البخاري.
فقد بلغ مجموع الرواة
المدلسين في كتاب البخاري (68) راويًا مدلّسًا. أما الروايات فعددها (6272)
روايةً. وبلغ عدد المدلسين الذين لم يصرّحوا بالسماع (6) من الطبقة الرابعة و(24)
من الطبقة الثالثة فالمجموع (30) راويًا. وهذه الطبقتان الا تقبل إلا بالتصريح
بالسماع أو باعتبارات تقوم مقام السماع.
المرتبة الثالثة: (24) راويًا، (1343) روايةً.
الروايات المعنعن فيها (796) روايةً.
المرتبة الرابعة: (6) راويًا، (36) روايةً. الروايات
المعنعن فيها (26) روايةً.
وعليه إذا كان مجموع الروايات المُدلسة
الكليّة هو (6272) روايةً، وكان مجموع الروايات المعنعنة (822) روايةً، فإن
الروايات التي تقبل عددها (5480) روايةً، وعليه تكون نسبة الروايات التي لا تقبل
بسبب التدليس هي 13.1% من مجموع الروايات المدلّسة.
(انظر: الخلف، عوّاد، روايات المدلسين في البخاري، ص591-592)
ثامنًا: نسخة البخاري الحالية المتداولة ليست
الأصلية بل هي أقدم النسخ.
ولا يمكن
الشك بوجود نسخة كتبها البخاري بنفسه، ذلك أنّ تلميذه الإمام مسلم ت: (261هـ)، وهو
من صنّف أيضًا كتابًا في الأحاديث وقد اتفق مع البخاري (المتفق عليه) في (2514)
روايةً. وإن اختلفوا في اعتماد الرجال، حيث اعتمد البخاري على الأقل على (10)
راويًا، اعتمد مسلم على بعضهم في المتابعات، وفي المقابل فقد اعتمد مسلمٌ على
الأقل على (16) روايًا، اعتمد البخاري على بعضهم في المتابعات.
أخيرًا
يبقى كتاب البخاري من أجلّ كتب الروايات التي حفظت للمسلمين أحاديث الرسول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وأقوال الصحابة والتابعين، وعلى أهل العلم أن يواصلوا
نقدهم لهذا الكتاب، فقد نقد كبار العلماء الروايات الواردة فيه، إذ كانت نقوداتهم
منصبّة على الأسانيد، لا على المتون، وما نحتاجه اليوم هو نقد الروايات بناءً على منهجية نقد المتون وذلك بعرضها على القرآن ومقاصده الكليّة وما يوافق السنن والحقائق
العلمية.
وليس من الصواب إتلاف
الكتاب أو إنكار أصله أو التنكّر له، بل لا بدّ من تشمير السواعد وفق منهجية
منضبطة محددّة، لتقييم كتاب البخاري، وتنقيته، رحِم الله تعالى الإمام البخاري فقد
قام بجمع الروايات وفق معيار علم الرجال، وبوّبها على أبواب الفقه، ورحم الله
تعالى كبار العلماء الذين نقدوا كتابه، ورحم الله تعالى من ردّ وأجاب عن البخاري،
لكن ليس من العلميّة في شيء الوقوف على أعمال السابقين وترديد أقوالهم وأمجادهم.
وما أجمل كلام ابن القيم:
"وعياذًا بالله من شر مقلد عصبي يرى
العلم جهلاً والإنصاف ظلمًا، وترجيح الراجح على المرجوح عدوانًا، وهذا المضايق لا
يصيب السالك فيها إلا من صدقت في العلم نيّته وعلَت همَته، وأما من أخلد إلى أرض
التقليد واستوعر طريق الترجيح فيقال له ما هذا عشُّك فادرجي" (2).
(2) http://islamport.com/w/qym/Web/3185/449.htm?
zoom_highlight=%22%E3%C7+%E5%D0%C7+%DA%D4%DF%22
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق