الأحد، 19 أكتوبر 2014

[العدل الإلهي والمشيئة الإلهية]

[العدل الإلهي والمشيئة الإلهية]

يرِدُ في القرآن الكريم مفهوم [المغفرة] و[الرحمة] وما يناقضهما وهو مفهوم [العذاب]. و[المغفرة] تكون للخطيئة والذنوب. والمغفرة تكون إما:
في الدنيا فحسب.
أو في الآخرة فحسب.
أو في الدنيا والآخرة.
و[التعذيب] يكون للكفر والشرك والنفاق والقتل والظلم والاستكبار والذنوب. وهذا التعذيب إما يكون:
في الدنيا فحسب. 
أو في الآخرة فحسب.
أو في الدنيا والآخرة.

وقد ورد في القرآن الكريم ما يشِي أن [المغفرة] و[العذاب] مطلق متوقّف على المشيئة الإلهية كما في قوله تعالى: 
1- "وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". آل عمران: 129.
2- "وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا". الفتح: 14.
3- "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". المائدة: 40.

فهل [المغفرة] أو [العذاب] متوقّف على مشيئة الله تعالى بالمطلق؟
أم أنّ لهذه [المغفرة] أو [العذاب] من أحكام أرادها الله تعالى وبيّنها في كتابه المبين؟

فهل لله تعالى أن يغفر للمعتدي الكافر المعاند؟ استشهادًا بقوله تعالى: "يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ"؟!!

وهل لله تعالى أن يُعذّب المسالم المؤمن المصلح؟ استشهادًا بقوله تعالى: "وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ"؟!!

إن المشيئة الإلهية في القرآن الكريم ليست مطلقة بل تتحرك في مساحة محددّة وهي تكون لمن اقترف الذنوب والخطايا من المؤمنين أو في دائرة غير المؤمنين بسبب جهلهم أو لكونهم مسالمين.
وتكون المشيئة الإلهية للمغفرة أو العذاب فيما يخص دائرة المؤمنين كما في قوله تعالى:
1- "لِّلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّـهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". البقرة: 284.
2- "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ". المائدة: 18.
3- "وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّـهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ". التوبة: 106.

أما فيما يخص عدم شمولها للمشركين _ بمعنى المعاندين أو المحاربين_ فتكون كما في وقوله تعالى:
1- "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ". المائدة:72.
2- "إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا". النساء: 48.
3- "إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا". النساء: 116.
4- "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ". التوبة: 113.

فالشرك وهو (المعاندة أو المحاربة) مصيره تحريم دخول الجنة ودخول النار. والله تعالى لا يغفر لهذا المشرك.

أما قوله تعالى:
"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون". آل عمران: 128.
فالتوبة على الذين كفروا (المحاربين أو المعاندين) تكون بعد أن يتركوا المحاربة وأن ينتهوا عنها قال تعالى:
"قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ". الأنفال: 38.
فآية آل عمران تفهم من خلال آية الأنفال.

أما دعاء إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:
"رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". إبراهيم: 36.
وقول المسيح عليه السلام في قوله تعالى:
"إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". آل عمران: 118.
فهذه أقوال نقلها القرآن الكريم عن الأنبياء، فإبراهيم عليه السلام رجا مغفرة الله تعالى ورحمته لمن عصاه، لكن الله تعالى لا يخلف ميعاده ولا وعيده.
وكذلك قول المسيح عليه السلام على ذات النسق.

أما قوله تعالى:
"رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا". الإسراء: 54.
فالخطاب فيها لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا". والعذاب فيها هو العذاب الدنيوي لا الأخروي.
والقانون العام في إيقاع العذاب هو قوله تعالى: 
"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا". الإسراء: 15.
أما فيما يخصّ أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بها هو في قوله تعالى: 
"وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ". الأنفال: 33.
فآية الإسراء 54 فيها فتح الباب للمشيئة إلهية بإجراء القانون العام وهو تعذيب المكذبين المحاربين لبيّنات الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كما هو سائر المكذبين، أو إجراء القانون الخاص وهو الرحمة المشروطة كما في الأنفال: 33.

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ

الجمعة، 17 أكتوبر 2014

لسان القوم ولسان القرآن المبين

لسان القوم ولسان القرآن المبين
القرآن الكريم إنما نزل وحيًا صوتًا مسموعًا واضحًا إلى قلب الرسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل على هيئة قرطاس أو كتابٍ كما هو كتاب موسى عليه السلام : "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ". الأعراف: 145.
والقرآن الكريم وهو حديث: "فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ". القلم: 44. قد وعاهُ الرسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسمعه الناس وقت التنزيل، فلم ينكروا منه مفردة من حيث دلالتها، وإن وردت روايات تفيد استغرابهم من بعض المفردات، إلا أن جهلهم بهذه المفردات لا يعني أنها مخترعات، ومما جاءت به البِنية القرآنية التأسيس لبعض المفردات بدلالة جديدة غير المتداولة. كمفردة: الصلاة، الزكاة. أو كمركّبات: غلّت أيديهم، تضع الحرب أوزارها.
لذا يمكن القول إن اللفظة القرآنية (دالّ) يدلّ على مدلول وعلاقة الدال والمدلول ليست اعتباطية، بل هي وضعيّة ومتداولة: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". ابراهيم: 4. خلا بعض الألفاظ التي نحت لها القرآن دلالات جديدة لم تكن متداولة.
الإشكال عند معظم المفسرين أنهم كانوا يحلّلون الآية من خلال المفردة وما تحمله من احتمالات مما تداوله لسان العرب، فاختلفت النظرات والمآلات، ولو أنهم ربطوا المفردة بأختها من الآيات، لكان دلالة المفردة أضبط وأحسن مقيلاً.
ثم الإشكال عند الناس أنهم ابتعدوا عن لسان القرآن الكريم، ونتيجة تطوّر اللغة واحتكاكها وتوسّعها أو تدهورها فإن اللغة المتداولة تتغيّر، إذ أصبح بعض الناس يفهم بعض المفردات القرآنية من خلال المعنى المتداول لا من المعنى الوضعي.
فمثلاً يرون معنى النجم في قوله تعالى: "وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ". الرحمن: 6.
الذي هو في السماء، والأوْلى أن يكون النبات الذي لا ساق له بحسب السياق. لكن المعنى الأول متداول عند الناس، والثاني غير متداول. إذ غدت بعض دلالة المفردات القرآنية غير متطابقة مع دلالة المخاطَب أو السامع.
لكن تبقى "بعض" دلالات ألفاظ القرآن الكريم أوسع مما ذهب إليه السلف من المفسرين. وتحمل في دلالتها آفاق جديدة لكن ضمن الاحتمالات التي تحملها اللفظة أيضًا.
لذا فإن بالإمكان القول إن المفردة القرآنية دالّ يدلّ على مدلول/ ات متداول /ة يفهمه/ا السامع أو المخاطَب به/ا وقت التنزيل، خلا بعض جهل بعض السامعين لبعض المفردات، وخلا بعض الدلالات الجديدة التي حفرها القرآن الكريم.
ثم إن هذه المفردة قد يكون لها مدلول واحد أو متعدّد، وقد فسّر المفسرون بعض هذه المفردات بأحد تلك المدلولات بما يوافق مستواهم المعرفي والعِلمي، بالإضافة إلى أنهم أهملوا ربط المفردة بأختها من المفردات في القرآن الكريم إلا ما ندر.
المطلوب حاليًا هو فهم المفردة القرآنية من خلال أخواتها من المفردات القرآنية، وعدم التوقّف على الاحتمالات التي أخذ بها السلف، لا لأنهم سلف، بل الأخذُ بالاحتمالات الجديدة إنما يكون اتباعًا للسياق القرآني لا اتباعًا للجديد لمجرد أنه جديد أو نبذ كل ما هو قديم.
فالإشكال الحالي هو التمسك باختيارات سلف المفسرين، وإشكال أكبر منه وهو اختراع مدلولات لا أساس لها في الاستعمال القرآني، أو إهمال مدلولات يدلّ عليها السياق القرآني، كأنكارهم لدلالة اليد أو الرقبة الدالة على أعضاء في الجسد.

بوركتم جميعًا
ولكل مجتهدٍ نصيبٌ
هبوط آدم وزوجه من الجنة
* سورة البقرة:
[اهبطوا بعضكم لبعض عدو] [اهبطوا منها جميعًا]
قال تعالى: "وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". البقرة: 36 -38.
*سورة الأعراف:
[اهبطوا بعضكم لبعض عدو]
قال تعالى: "
فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ *قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ". الأعراف: 22-24.
*سورة طه:
[اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا]
قال تعالى:
"وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ". طه 121-123.
نلاحظ أن سورة البقرة بعد حدوث المعصية قال تعالى [اهبطوا بعضكم لبعض عدو]، بعدها بلا فاصل زمني طويل (فتلقّى آدم من ربه كلمات). بعد ذلك الأمر بالهبوط مرة أخرى: [اهبطوا منها جميعًا]. والكلام كان بصيغة الجمع مع أن العصاة كانا انثين آدم وزوجه.
في سورة الأعراف بعد حدوث المعصية وبعد تغطية السوءة ومناداة الله تعالى لهما، مباشرة بدون فواصل زمنية (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) إذ لا حروف عاطفة. ومباشرة بلا فواصل زمنية قال: [اهبطوا بعضكم لبعض عدو]. مرة أخرى الكلام كان بصيغة الجمع مع أن العصاة كانا انثين آدم وزوجه.
في سورة طه بعد حدوث المعصية وغواية آدم (ع) وبعد فترة طويلة تم اجتبائه وهدايته، يأتي الأمر بالهبوط قال: [اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا]. وهنا الصيغة جاءت بالمثنى.
كل هذه المشاهد التي نقلتها الآيات في السور الثلاث ما بين تسريع للمشهد تارة أو اختزاله تارةً أخرى، توكّد حصول الأمر بالهبوط مرّتيْن، (3) مرّات بصيغة الجمع و(1) مرّة بصيغة المثنى.
ويمكن إعادة الترتيب المنطقي للمشهد الذي وصفته الآيات القرآنية على النحو الآتي:
حدوث المعصية من آدم وزوجه (مُثنى) ==> تغطية السْوءة ==> عتاب الله تعالى لهما ==> قولهما: "قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا" ..لعدم وجود (حرف عاطف) ==> الأمر الأوّل بالهبوط: [اهبطوا بعضكم لبعض عدو] ==> (تلقّي الكلمات) فتلقّى آدم من ربّه كلمات (مرحلة الاجتباء) ثم اجتباه ربّه فهدى ==> الأمر الآخر للهبوط [اهبطوا منها جميعًا] البقرة/ [اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا] طه.
فدلالة (هبط) الأولى جمع (اهبطوا)، والمراد منها التثنية كما في (اهبطا) فلا تناقض ولا اضطراب ولا مزيد تخيّلات.
فالقرآن الكريم تارة يستعمل صيغة الجمع للتدليل على المثنى:
مثاله في القرآن الحكيم: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما". التحريم:4. فالكلام كان عن مثنى (تتوبَا) ، ولفظ القلوب جمع.
وقوله تعالى: "اذهب أنت وأخوك بآياتي". طه:42. فالآية ورد فيها (آياتي) وهي جمع. والواقع أن موسى عليه السلام أُعطِي آيتيْن اثنتيْن.

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ

[آدم وزوجه معًا منذ اللحظة الأولى]


سورة البقرة:
قال تعالى:
"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ". البقرة: 35.
إذا تأمّلنا الضمير المنفصل المذكر "أنتَ" فهو يفيد اختصاص آدم عليه السلام لكوْنه صاحب المسئولية الأوّل، وهذا لا يعني أنه كان وحيدًا وقت أن قيلَ له [اسكن].
وفي سورة طه:
قال تعالى:
"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ". طه: 116-117.
إن حرف العطف "الفاء" في قوله: "فَقُلْنَا" يدلّ على أن زوج آدم كانت موجودة معه وقت رفض إبليس السجود آدم عليه السلام.
ومعلوم أن الملائكة أُمروا بالسجود لآدم عليه السلام وقت أن نفخت فيه الروح.
قال تعالى: 
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ". الحجر: 28-31.
فمن الممكن أن يقال:
إن آدم عليه السلام قد خلقه الله تعالى مع زوجه (ومع بشرٍ آخرين)،
فاختصّه عليه السلام من بين كل هؤلاء بسجود الملائكة له، فهو المصطفى من بين البشر المخلوقين [النوع الإنساني].
وعليه فزوج آدم عليه السلام لم تخلق بعده ولا من ضلعه كما هو الفهم السائد، ومن خلال هذا التأمل يمكن فهم اصطفاء آدم عليه السلام في قوبه تعالى: "إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ". آل عمران: 33.

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ

تأثير القرآن الكريم [القلوب الخاشعة] و[القلوب القاسية]


يشكّل القرآن الكريم مركز تأثير في الإنسان لما يحمل من دلالات ومعانٍ تحرّك فيه الإيجابيات وتدفع بها ليكون نافعًا ومصلحًا. وهذه هي حالة [الخشوع]. بمعنى أن الإنسان يصبح منسجمًا مع نفسه ومع الكون بفِعل وتأثير القرآن الكريم.
قال تعالى مُحفّزًا المؤمنين:
"أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ". الحديد: 16.
فـ[ما نزل من الحقّ] يجعل قلوبَ المؤمنين خاشعةً؛ والقلب في القرآن الكريم هو مصدر التدبّر والتفكير كما في قوله تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا". محمد: 24. وقوله: "صَرَفَ اللَّـهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ". التوبة: 127.
فأصحاب [القلوب الخاشعة] شخصيات رائعة منسجمة مع ذاتها، نافعة لنفسها ولمن يُحيط بها، وذات تفكير سليم، كل هذه الصفات إنما هي من تأثير القرآن الكريم ومنهجه.
وعلى نقيض [القلوب الخاشعة] تكون [القلوب القاسية] التي لا تدَع لتأثير القرآن الكريم أي مسلك أو طريق، فهي شخصيات منتناقضة مع ذاتها، أنانية إحسانها قائم على المصالح وما يجلب المنفعة لنفسها.
والأصل في الإنسان أن يوثر فيه القرآن الكريم إلا من تكبّر وانصرفَ عنه، ومن تأثير القرآن الكريم في الإنسان المؤمن أيضًا قشعريرة الجلود، ثم ليونة الجلود ومواضع التفكير. كما في قوله تعالى: "اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ". الزمر: 23.
وأثر خشية الله تعالى يختلف باختلاف طبيعة المخلوقات، فالحجارة (مخلوقات) وتأثير خشية الله تعالى لديها يكون بالهبوط: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ". البقرة: 74.
والجبل (مخلوق) خشوعه يكون بالسكون والتصدّع: "لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". الحشر: 21.
وعند التأمل في القرآن الكريم نجد أن أثر الخشوع لدى المؤمن (المخلوق الإنساني) لا يكون بالتصّدّع ولا بالهبوط، الواقع القرآني يؤكّد أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله تعالى، وإذا كانت الجبال حجرية فيكون خشوعها بالتصدّع، وعليه فيكون معنى المثل المضروب بإنزال القرآن الكريم على الجبل، أنه بالرغم من أن القرآن الكريم لم ينزلْ على الجبل، ولا الجبل مهيّؤٌ لاستقبال القرآن الكريم. إذ الإنزال يتطلّب قبله التهيئة حتى يحصل التأثير.
فلو كان هذا القرآن منزلاً على الجبال لكان التأثير فيه ساريًا، لكن الواقع أن القرآن الكريم أنزل مهيّاً لاستقبالات الإنسان، ففريقٌ من الإنسان قستْ قلوبهم ولم يدعوا القرآن الكريم يؤثر فيهم تكبّرًا منهم أو خوفًا على مصالحهم. وكان الأوْلى بهم لو تفّكروا في المنافع التي يهبها القرآن الكريم لتمسّكوا ومسّكوا به.

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ

الخميس، 9 أكتوبر 2014

القرآن الكريم والرسول النبي (ص) والعالمية


القرآن ذكرى وذكر ونذير للعالمين

"أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ".         ﴿الأنعام: 90﴾.
"وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ". ﴿يوسف: 104﴾.
"تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا". ﴿الفرقان: 1﴾.
"إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ". ﴿ص: 87﴾، ﴿التكوير: 27﴾.
"وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ". ﴿القلم: 52﴾.

الرسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وبشير ونذير للعالمين.

"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ". ﴿الأنبياء: 107﴾.
"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". ﴿سبإ: 28﴾.
"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".﴿الأعراف: 158﴾.


.

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2014

ابنا آدم عليه السلام

"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ
 قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ    
قَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * 
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّـهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ
 قَالَ: يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ". المائدة: 27-31.

ملحوظات مهمّة:
- ابنا آدم لم يرِد اسمهما في القرآن الكريم.
- تقديم القُربان غير مذكور نوعه.
- تم قبول قربان أحد الأخوين وتم رفض قربان الآخر.
- أحد الأخوين قتل أخاه وسبب القتل غير محدّد.

وهنا سؤال مهم:
 من القاتل؟ هل الأخ الذي تُقبّل منه؟
الاحتمال الأول: الذي لم يتقبّل منه هو القاتل.

الاحتمال الثاني: الذي تُقبّل منه هو القاتل.


الواضح من الآيات أن الاحتمال الأول هو الصحيح لأن جواب المقتول قبل القتل كان:

"قَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ".
فقام الذي لم يُتقبّل منه بطواعية نفسه بقتل أخيه، فصار من الخاسرين.
ولا حجّة لمن قال إن القاتل هو الذي تقبّل منه.
"قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ   قَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ".
الحجة  في ذلك  القول إن القاتل قد اعتبر نفسه أفضل من أخيه بعد أن تقبّل الله منه قربانه. فعدا على أخيه ليقتله، كما يفعل الدواعش وأمثالهم، إذ يرون انفسهم الفرقة الناجية ويتقربون إلى الله تعالى بالعدوان على إخوانهم بني آدم. وسورة المائدة خطاب للذين آمنوا، وفيها نهي عن العدوان والأمر بالعدل، وفيها إخبار عن ظنّ اليهود والنصارى بأنهم أبناء الله تعالى وأحبّاؤه، ومعلوم ان السورة من أواخر ما نزل، وأنها بعد قوة وغلبة ونصر ورفعة للمسلمين إيمانًا ومقامًا ومكانةً، فلا يستدعي ذلكم بالمؤمنين أن يعتدوا بل عليهم بالعدل.

صحيح أن الدواعش وأخواتها يفعلون ما يفعلون، وأن السورة من أواخر ما نزل، وأنها خطاب للذين آمنوا، وذُكر فيها قصص أهل الكتاب كي لا نقع فيما وقعوا فيه. لكن كل هذا لا يناصر حجة أن القاتل هو الذي تُقبّل منه.
والسبب بسيط أن سياق الآيات، فيه حوار بين شخصين.
الأول: "قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ".

الثاني: "قَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ".
فلا يعقل أن يكون كل الكلام لأخ واحد، كما هو ظاهر من السياق، إذ ورد لفظ (قال)، وهذا يدلّ على حوار بين شخصين (أخويْن).
ومثله قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ
 إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
 قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ".  البقرة: 258.
فواضح من السياق أن هناك شخصان، الأول: الملِك، الثاني: إبراهيم عليه السلام.
والآيات التي تتحدث عن ابني آدم إنما ذكرت في سياق الحديث عن بني إسرائيل بعد التيه، لأن حادثة قتل قد حصلت بينهم، كما فصّلت ذلك آية سورة البقرة: 73.لذا فجاء السياق بقوله تعالى:
"مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ". المائدة: 32.

- ابنا آدم يعرفان أن جزاء الظالمين هو النّار.
- لدى ابنا آدم مفهوم الإثم. ومعنى هذا أن القتل من الآثام التي تؤدي إلى النار.


أما بخصوص الغراب، فقد بعثه الله تعالى:
"فَبَعَثَ اللَّـهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ".
- الغراب كان واحدًا لا أكثر
- كان يبحث في الأرض.
- الهدف من بعثه هو تعليم الأخ القاتل كيفية مواراة سوءة الأخ المقتول.
-  الأخ المقتول سوْءة والقتل سيئة(إثم).




في تلك اللحظات قال القاتل:
"قَالَ: يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ"
فالغراب في عملية بحثه في الأرض كان يواري أشياءً، فاستنتج القاتل كيفية مواراة سوءة أخيه وهي جثته. فكان من النادمين على القتل.
فالغراب قام بعملية البحث ينتج عنها مواراة، فيكون التعليم منه الحفر والدفن لمواراة الجثة.
وهنا يتألم القاتل على فعلته، ويقول هل عجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب (في فعله) فأواري سوءة أخي؟؟!
ولا صحة لقول القائل إن الغراب من الفواسق المؤذية بالتالي فإن ما فعله الغراب أمام ابن آدم القاتل هو تعليمه إخفاء الجريمة، والأصل أن يظهرها.ففاسق(الغراب) يعلّم فاسقًا!!
فالآية تتحدّث عن عملية بحث ومواراة، ولا علاقة هاهنا بالإيذاء أو الفسق. ثم إن دفن الجثة لا يعني إخفاء الجريمة، لاسيما أن الآية صرّحت بندم القاتل.
ولا صحة لأن السوءة هي ذات السوءة التي نزعها الشيطان عن أبوينا، آدم وزجه عليهما السلام.
فالسوءة صحيح أن الشيطان نزعهما عن آدم وزوجه لكن لا علاقة بها فيما يخص سوءة الأخ المقتول،فالسوءة للأخ صارت بعد حادثة القتل. وإن كانا الأخوين ابني آدم لكن لا علاقة بسوءة الأخ المقتول بسوءة آدم وزوجه.
وعليه فلا يصح أن يكون الدرس من قصّ قصة ابني آدم، هو ألا تتبعوا وتبحثوا عن عورات وسوءات بني آدم، فتكشف سوءاتكم ولو في جوف بيوتكم فتصبحوا من النادمين. هذا الدرس متوفر في روايات صحّت عن الرسول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.ولا صحة بأن الغراب غريب، يبحث عن غرباء، فالإنسان ينبغي ألا يبحث عن عيوب غيره وهو لا يخلو من عيوب.

بل الدرس هو لبني إسرائيل في المقام الأول ولبني آدم ومنهم بالتأكيد المؤمنين، ألا يقتل الأخ أخاه الذي هو مثله إنسان، بغير حق، فمن قتل نفسًا بغير حقّها فكأنما قتل الناس جميعًا.

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ

ابنا آدم وبنو إسرائيل

قال تعالى
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ  إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّـهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ". المائدة: 27-31.
جاءت هذه الآيات الكريمات بعد الحديث عن تيه قوم موسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة، ثم فجأةً جاء الكلام عن قصة قتل أحد ابني آدم عليه السلام أخاه، وبعدها استمر الحديث عن بني إسرائيل حيث قال تعالى: 
"مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ". المائدة: 32.


وهنا يخطر في بال المتدبر للآيات الكريمات أسئلة مهمة:
ما علاقة بني إسرائيل بابني آدم؟ وهل القاتل من ابنيْ آدم عليه السلام لم يكن في حكم قاتل الناس جميعًا؟ أم أن القاتل لنفس واحدة في حكم قاتل الناس جميعًا بدأ في زمن بني إسرائيل؟؟

بعد التأمل في القرآن الكريم وجدتُ أن حادثة قتل رجل من بني إسرائيل الواردة في سورة البقرة:
"وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّـهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ". البقرة: 72-73.
قد تكون هذه الحادثة حدثت في بدايات تيه بني إسرائيل في الأرض، فأورد الله تعالى قصة ابنيْ آدم عليه السلام في سياق تنبيهًا لبني إسرائيل وللمسلمين إلى أول جريمة قتْل حصلت في البشرية، فأورد الله تعالى قصة ابني آدم في سياق الحديث عن بني إسرائيل. ثم أتبعها بقوله:


"مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ". المائدة: 32.
وعليه يكون القاتلُ لنفس واحدة في حكم قاتل الناس جميعًا بدأ في زمن بني إسرائيل، لا قبله، [مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ] كما أن الآية ليست حصرًا في بني إسرائيل، بل هي مستمرة منذ زمنهم إلى يوم الناس لربّ العالمين.
و

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ