الأحد، 20 ديسمبر 2015

الاجتهاد والتجديد (3)



الاجتهاد والتجديد (3)
::الإجماع::

من المصطلحات التي صكّها العلماء مصطلح [الإجماع]، ويقصدون به اتفاق المجتهدين على حكم مسألة من المسائل الشرعية، واتفاقهم يعني تطابق آرائهم وإن لم يجتمعوا على طاولة واحدة.
وقد ذكر أهل الأصول أن من شروط المجتهد أن يعلم مواضع الإجماع التي سبقته. وهنا أحاول تفكيك هذا المصطلح وتحديد مجاله.

تفكيك المصطلح وتجديده:المعلوم أن الأمور التشريعية محلّها الكتاب وما وافقه من روايات، فما يُقال عنه إجماع على مسائل دينية، فإن الحجّة هي لجملة النصوص المعتبرة لا للإجماع بحدّ ذاته، وعمل المجتهد هو الكشف عن النص، على من خفي عليه، أو الربط بين الأدلة والاستنباط.
لكن إذا تجاوزنا حقيقة أن العبرة بالنصوص لا بإجماع المجتهدين، فإن هذا يفتح بابًا للتساؤل:
فقد يسأل سائل إجماع من هو المعتبر؟ إجماع أهل المدينة؟ ما اتفقت عليه المذاهب الأربعة؟ ما اتفق عليه الشيخان (البخاري ومسلم)؟ إجماع السلف في القرون الثلاث الأولى؟ إجماع المذهب الفلاني السنّي أو الشيعي أوغيره؟؟
وأتعجّب من قول أحد دكاترة الأصول: إن إجماع العلماء على مسألة يرفعها من مقام الظنّ إلى مقام غلبة الظنّ، فتصير الحجية أكبر!!
لذا فالإجماعات في المسائل الدينية لا عبرة لها إلا بقدر ما تشهد لها النصوص القرآنية وما وافقها من روايات وأحاديث.
والذي أراهُ أن الإجماع لا يكون إلا في الأمور الدنيوية فيصر التعريف كالآتي: إجماع أهل التخصص والخبرة في قضية من القضايا المثارة في زمن ما على حكم معين مُلزم للعامة، ويصدق عليه قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ [أَمْرٍ جَامِعٍ] لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". النور: 62.

مجال الإجماع:
في الدنيويات لا في التشريعات:
قال تعالى: "بِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". آل عمران: 159.
والشورى لا تكون في التشريعات بل في الاجتهادات، فالمؤمن مطالب بفتح باب المشورة في المستجدات، ويأخذ رأي المتخصصين وأصحاب الخبرة والحكمة. وعليه يكون الأمر الذي تمّ الإجماعُ عليه أو رأي الأكثرية هو واجب الإلزام والطاعة. قال تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ] فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخر". النساء: 59.
وهذا يدل أنه في حال النزاع في أي قضية شرعية أو قضائية أو دنيوية يكون الرجوع إلى كتاب الله وإلى الرسول وقت التنزيل وهذا وقته انقضى، وإلى النصوص بعد التنزيل من قرآن وسنّة موافقة له، لكن الطاعة إنما تكون لأولي الأمر فيما يتعلق بأمور دنيوية لا تشريعية. لأن الطاعة في الأمور التشريعية إنما هي من الكتاب وما وافقه من أحاديث، وليس لأولي الأمر أي مُدخل فيها.
ومثله قوله تعالى: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ] لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا". النساء: 83.
فواضح من الآية الكريمة أن ردّ القضايا الدنيوية لا التشريعية يكون لأهل التخصص والخبرات.
يبقى دور أهل الذكر هو بيان النصوص والاجتهاد فيها، "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". النحل: 34، الأنبياء: 7. لكن لا اعتبار للإجماع، بل للنص المؤسس له الذي لا يُقبل فيه الخلاف.

النتائج:ترتّب على مصطلح "الإجماع" الأصولي وتعميم مجاله عدة إشكاليات:
1- تغييب الشورى. وهذا حصل زمن معاوية مع ابنه يزيد.
2- تشريع طاعة ولي الأمر بلا ضوابط. (روايات السمع والطاعة..وإن جلد ظهرك..).
3- تفتيت المسلمين بمفهوم "الإجماع" الفقهي والعقائدي. وإخراج من لا يقبل بهذا الإجماع. (مظاهر قولية من التبديع والتكفير، مظاهر فعلية من التفعيق والتفجير).
وإذا اتبعنا المنهج المقاصدي الذي أدعو إليه فإن المعتبر هو النصوص من قرآن وما وافقه من روايات، على أساس القيَم، وأن لا عبرة لإجماع مهما كان، وإن كان ثمّة الإجماع قد استند إلى نص، فلا عبرة له بل للنص المؤسس، كما أن الإجماع يمكن أن يتصوّر في الأمور الدنيوية الطارئة والمستجدة. وهنا يكون الإجماع محلّ طاعة وإلزام إذا تداوله أهل الخبرة والاختصاص وصدر عنهم.

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق