"الأنا" و"الآخر" المواقف والعلاقات بين الأصالة والحداثة
إعداد: إياد محمد أبو ربيع
تشكل المرحلة الراهنة في التاريخ العربي الإسلامي درجة بالغة الأهمية، لاسيما وأن الحضارة الإنسانية قد صعدت درجات كثيرة في سلّم الترقي والتحضر، وقفزت قفزات هائلة عن التحديات والأزمات، بينما ظل الطموح يراود أرباب التحضر العربي، وبقيت الخواطر تعصف في أذهانهم، فهناك فجوة عميقة طويلة وعريضة، يصعب رأبها إذ اتسعت على الراقع.
أرباب الحضارة الإنسانية في الوقت الراهن هم "الآخر"، وقد كان منذ فترة أربابها "أنا" أو "نحن" كصيغة تعظيم، ولسنا نحاول في هذا الصدد أن نجيب عن التساؤل لماذا هذا التراجع والتقهقر، ولكننا من محاولة فهمنا لماذا هذا التقدم لـ"لآخر"، ستُتاح لنا إجابة أشمل وأوفى.
مما لا ريب فيه أن العالم اليوم يقترب أكثر مكانًا واتصالاً وإنسانًا، بحُكم العولمة، وهذا يعني أن الناس سيشكلون خليطًا فسيفسائيًا، تتداخل فيه الثقافات والعادات والديانات واللغات، وهذا قد يضر بالشخصية الذاتية لكل ثقافة، ويُشعر بالخوف من الذوبان، أو الاندماج، وربما يقود إلى مزيد تقوقع على الذات، وهذا الأخير يؤدي إلى التخلف؛ لأن الاحتكاك مع "الآخر" يعرّف "الأنا" على ما ينفعه وما يضرّه.
إن المرجو من هذه السيرورة أن يكون الخليط متجانسًا يفعّل الطاقات، ويُفرز الابتكارات والمخترعات، وهذا الرجاء والأمل لا يكون إلا ضمن أُطر عامة محددة تحكم هذا النمط العالمي الجديد "العولمة"، وإلا كان المصير انفجار بشري هائل يقضي على الجميع.
وبما أن "الأنا" ضمن المجموعة البشرية –بغض النظر عن موقعها الحضاري الفعلي- وتزعم أن لديها رسالة حضارية للإنسانية، إذ ترى في نفسها أنها خير أمة أُخرجت للبشرية، وهذا بقي على الأقل حتى اللحظة محض ادعاء، وليس له مكان متقدمًا في الخارطة الحضارية الإنسانية.
وليس من نافل القول إن "الأنا" العربي المسلم ليست كيانًا واحدًا ولا فكرًا محدّدًا، فـ"الأنا" اليوم مجموعة من الكواكب تدور حول شمس المركز (القرآن)، وهذا يجعل كلمتها متفرقة، وطاقاتها متفككة، مما يعيق حركة بنائها فضلاً عن بناء البشرية، لكن ضمن هذه الكواكب ظهرت كواكب وُجد فيها "ماء الحياة" إصلاحية، تَصلح أن تكون نواة جيدة للارتقاء بسائر الكواكب، إذا بذرت في تربة خصبة، وتهيئت لها أسباب النجاح، وأخذت زمام المبادرة وانطلقت.
هذه النواة من المفكرين الإصلاحيين عبر التاريخ الإسلامي العربي، استطاعت إلى حد ما، أن تُعطي صورة واضحة عن "الأنا" الواقعية، و منحت قراءةً تقييمية للـ"آخر". وحاولت التوفيق مع "الآخر" بغرض التلاقح الفكري بُغية توزيع الإنتاجية الحضارية على البشرية بشكل عادل وفاعل.
لكن هذه المحاولات بقيت ضعيفة وقليلة، خصوصًا أن المحيط العام والفكر السائد في معظمه يغرف من معين الماضي، وينظر إلى "الآخر" على أنه حسود حقود، وأنه أخطر عليه من النسور والأسُود. ساعد على ذلك بروز الاستعمار وأدواته، وبرهن على صحة نظريته الغطرسة الإمبريالية.
وهذا الاندفاع الإمبريالي والجشع والطمع، هو الذي حال دون توفر حالة التعايش السلمي، وزرع بذور الخلافات، وما يُسمى بـ "صراع الحضارات"، وما تشهده الإنسانية اليوم حصاد ذلك كله.
لكن من قناعتنا من أن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه، وليس عجلة التاريخ مَن تتحكم فيه، فينبغي أن نعيد الأمور إلى نصابها، فنتفهّم واقع "الأنا" بمستوياتها، ومكانة "الآخر"، كي يصبح الحلم حقيقة، والطموح واقعًا، نحو حضارة إنسانية متعايشة.
وتشكل هذه الدراسة مشاركة في بناء هذا الطموح، فهي تتناول بالدراسة والفحص علاقة "الأنا" بـ"الآخر" الداخلي، وكذلك بـ"الآخر" الخارجي، وقياس درجة التوتر بينها أو الاستقرار، والسبل التي ينبغي توفرها في سبيل بناء حضارة متوافقة لا عدائية.
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق