العنف في الكتب الإلهية نظرة مقاصدية
لا يمكن غض الطرف عن وجود العنف في الكتب الآلهية (التوراة/الأنجيل/ القرآن) مع الإقرار بوجود تفاوت في حجم هذا العنف بين هـذه الكتب، مهما يكن فإن الفريق المنكر لوجود مستويات من العنف في الكتب الإلهية إنما مثلهم كمثل من يغطي عينيه والشمس في رابعة النهار، والفريق الذي ينزع إلى الرمزية في تفسير النصوص يضرب سياق النص بهدف تجميل النص.
وفي المقابل يرى فريق أن النصوص الإلهية تدعو أو تبرّر العنف على مستوى أقل وهو الإنجيل، فهذه الكتب من وجهة نظر هذا الفريق دمّرت الحضارة وأفسدت الإنسانية، فلا حاجة لنا لهذه الكتب بل علينا بالعلوم والمعارف، ولنترك "المنابر" إلى "المخابر".
في ظل هذه الآراء المتباينة يجد فريق قليل العدد كبير التأثير هذه النصوص التي يحوي في طياتها العنف مادة خصبة لتبرير إجرامه وطغيانه. وهذا ليس محصورًا في دين دون دين، فظاهرة "داعش" تبرز في كل ديانة حينما يفقد الأتباع البوصلة في فهم النصوص، ويغذيها بالإضافة إلى الجهل الشعور بالظلم والاضطهاد فتكون الممارسات والمآلات كارثية على المخالفين لهم.
سآلني البعض هل الله تعالى "صاحب مزاج"؟ هل الربّ يُغيّر منهجه من سلم إلى حرب؟
الفكرة التي أنطلق منها هي أن القيَم في ذاتها ليست مطلقة بل هي نسبية، فالعنف التي يدعو الله/الرب إليه في زمن موسى أو يوشع عليهما السلام هو في ذات الوقت رحمة بالمقارنة مع ممارسات الامبروطوريات في ذلك الوقت، حيث التحريق وقطع الأشلاء واغتصاب النساء...ومثله يقال في ممارسات الرسول النبي محمد واستخدام العنف مع "الأعداء" وليس "المخالفين"، فهو عنف وفي ذات الوقت هو رحمة نسبية في ذاك العصر.
لذا فمن الخطأ المنهجي سحب ظروف الماضي إلى العصر الحاضر ومحاكماتها وفق الأعراف الحالية والقيَم التي توصلت إليها الإنسانية اليوم.
كما أن الخطاب والتوجيه الرباني يناسب عصر التنزيل وظروفه ويعالج القضايا "عمليًا"٫ فقيمة الرحمة تتطوّر وتأخذ عدة أطوار، فالقاتل مثلاً يُقتل هو فقط ولا يُقتل جميع عشيرته، وهذا عنف مصطبغ بالرحمة، لكنه أكثر رحمة إذا ما قارناه مع قتل القاتل وعشيرته. ولكنه في ذات الوقت يكون رحمة نسبية أقل إذا ما قارناه مع حبس القاتل وحده دون قتله. فهذا سيغدو أكثر رحمة من العقوبة التي سبق ذكرها. لذا فالقيَم تتقدم بفعل "الوعي الإنساني" القائم على ملكة "التفكير السليم" وهي لبّ رسالة الإسلام ومحورها.
لذا لا ينبغي للبشرية في رقيّها أن تتعدى حدود الله بمعنى عليها ألا تنزل عن المستوى التي وصلت إليه، فالقيَم تتقدم، والنصوص في جميع الكتب الإلهية ظرفية باستثناء النصوص ذات البعد القيَمي بالأخص (الإنجيل/ وبعض نصوص القرآن). في ظل تقدم القيَم (المتحركة) وظرفية النصوص (الساكنة) تحصل الفجوة وتتباعد، فالتمسك بالنص الظرفي يجعلنا في دائرة التعدي على حدود الله، لذا ينبغي مواكبة هذا التقدم في القيَم. وعدم النزول عن الحدّ الذي وصلت إليه.
ومن ينظر في النصوص ككل، يرى أن العنف أكثر حضورًا في التوراة، ويكاد يكون معدمًا في الإنجيل، أما في القرآن المجيد فإن نصوصه تمزج العنف باللطف لكن ترجّح كفة اللطف. "وأن تعفوا هو خير لكم" وغيرها الكثير من الآيات.
نلاحظ أن القرآن الكريم في العهد المكي سلك خطة اللطف (اللاعنف) لكن في العهد المدني (حيث السلطة) زاوج ما بين العنف/ اللطف مع ترجيح الأخيرة تمامًا كالتوراة العهد القديم -العنف- والإنجيل -اللطف. فالقرآن الكريم رجع خطوات إلى الخلف (التوراة- شريعة موسى (العين بالعين) لأخذ الدروس والعبر، تلك الخطوات بهدف التقدم إلى الإمام (القيِم)، لكن ما حصل في ظل غياب الفهم الكلي لرسالة الله تعالى جعل معظم المسلمين يرجعون إلى تلكم الخطوات إلى الخلف لكنهم للأسف بقوا فيها في (التاريخ/ الماضي) وكأنما أصابتهم حالة تكلّس وتجمّد. والسبب في هذا من وجهة نظري هو اختراع الفقهاء مصطلح "النسخ" الذي هو يقضي أن آيات العنف تلغي آيات اللطف في كلا العهدين المكي والمدني، بمعنى أن القرآن صار في النهاية كالتوراة!! وفيما يخص المسيحيين فإن سيطرة فهم الكنسية أكبر من نصوص الإنجيل نفسه. وفي يخص اليهود هو ولعهم بتاريخ الشعب المختار واستحضارهم المستمر للماضي وسلخ سياقات وظروفه. ورفضهم المسيح عيسى عليه السلام الذي جاء بالقيَم.
أخيرًا.. أقول إن العنف بمستوياته في القرآن المجيد أو التوراة إنما هو معالجة لظروف التنزيل، وأن القيَم ليست مطلقة. وأن الرسالة الأخيرة تحض الإنسان على التفكير السليم لتطوير هذه القيَم وأخذ الدروس من التاريخ القديم والمعاصر، وتحثّه على عدم النزول عن مستوى القيَم التي توصّلت إليه.
إن المشكلة الأساسية هي في عدم الفهم الكلي للرسالات، والتطبيقات الناتجة عن هذا الفهم، واختراع مفاهيم تغطي على الفهم السليم كمصطلح "النسخ" عند عموم المسلمين. وسيطرة التاريخ على الفكر اليهودي ورفضهم تعاليم المسيح عليه السلام، وسلطة الكهنوت والكنسية على الفكر المسيحي. أظن بهذا الفهم يمكن تفسير ظاهرة "داعش" وأجدادها وأحفادها وأخواتها في كل الديانات. لذا فليس جديرًا بالمؤمنين انتقاء آيات اللطف وإنكار آيات العنف، أو تجميل نصوص العنف بأدوات التجميل "الرمزية". وعلى القائلين بأن النصوص هي سبب هذه الويلات والحروب والآلام أن ينظروا أكثر، فالنص القرآني من وجهة نظري في النهاية هو أحد المصادر التي ترفد البشرية بالقيَم، إذا ما اتبعنا المنهج المقاصدي على نحو ما ذكرت. وأدعو إليه.
شكرًا
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق