الاجتهاد والتجديد (4)
من المصطلحات التي صكّها العلماء مفهوم "النسخ"، وهو بمعنى أن الحكم اللاحق ينسخ الحكم السابق، فيكون الحكم المعمول به والملزم هو الحكم الأخير.
تفكيك المصطلح وتجديده:وهذا المفهوم يصدق على الشرائع، فيأتي شريعة تنسخ بعض أحكام الشريعة السابقة عليها. كقوله تعالى:"مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". البقرة: 105-106.
ويصدق على بعض أقوال أو تصرفات الرسول النبي عليه الصلاة والسلام، كاستقبال القلبة غير البيت الحرام، أو صوم عاشوراء، أو النهي عن زيرة القبور.
لكن الخطير هو تعميم هذا المفهوم ليدخل نطاق القرآن الكريم، بحيث تصبح آيات الصبر والعفو والدفع بالحسنى، منسوخات وملغيات بحكم آيات القتال والجهاد!!
وإن كان مفهوم النسخ في حدّ ذاته عند "المتقدّمين" هو بمعنى تخصيص العام، أو تقييد المطلق، لا بمعنى الإلغاء. لكن في عُرف "المتأخرين" صار بمعنى الإلغاء.
وصار من شروط الاجتهاد معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم!!
مجال النسخ:
والذي أراهُ أن النسخ له مجاله؛ وهو في بعض الشرائع وفي بعض تصرفات وأقوال الرسول النبي عليه الصلاة والسلام، أما القرآن الكريم فلا نسخ فيه، فلا آية تلغي حكم آية أخرى.
النتائج:
ترتّب على مصطلح "النسخ" وتعميم مجاله عدة إشكاليات:
1- الإساءة إلى الإسلام، بحيث يُصوّر على أنه دين انتهازي، ينتهج قاعدة: [تمسْكنْ حتى تتمكّن].
2- تغييب منهج القرآن الكريم في تغليب العفو على مقابلة السيئة.
3- تبرير الهجوم على الأمم والشعوب، وأن أصل العلاقة معهم هو الحرب لا السلم.
وإذا اتبعنا المنهج المقاصدي الذي أدعو إليه فإن المعتبر هو النصوص من قرآن كريم وما وافقه من روايات، على أساس القيَم، وأن لا وجود لناسخ ومنسوخ في القرآن الكريم، وإن كان ثمّة نسخ فهو محصور في بعض الشرائع وبعض أقوال وتصرفات الرسول النبي عليه الصلاة والسلام، وأن دين الله تعالى ينتهج خطة وهي واقعية تدعو إلى المثالية، تبدأ من الصبر والعفو (مرحلة ضعف)، ثم دفع الاعتداء (في مرحلة توازن القوى)، إلى عدم الانتقام، بل العفو لمن طلبه واستحقه. وأن العلاقة مع الآخر هي السلم والتعايش على أساس القيَم الإنسانية.
بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق