الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

المقدّس



الأمكنة تكتسب قُدسيتها من المعتقِدين، وهذا يمكن فهمه في سياق الحركة الاجتماعية لكثير من المعتقدات، لكن الأصعب هو أن يأتي كتاب مصدره خالق السماوات والأرض ليعطي صبغة قُدسية لرقعة أو بقعة جغرافية ما، لستُ أدري لماذا هذه الإضفاءات خصوًصا في القرآن الكريم؟ لستُ هنا إلا متسائل حتى أقطع الطريق على الشامتين. فلماذا إضفاء قدسية على أمكنة معيّنة بذاتها؟

أخي الحبيب للإجابة على هذا التساؤل المهم، لا بدّ من استقراء المواضع التي ورد فيها تخصيص الأماكن سواء بالقدسية أو الحُرمة أو البركة وهي كالآتي:

* [المقدّس]: وهو لفظ يدلّ على الطهارة.
الأرض المقدسة التي كتب الله لبني إسرائيل (مدخلها فلسطين)، الواد المقدس الذي خاطب الله تعالى فيه نبيه موسى عليه السلام. "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى". طه: 12.

* [الحرام]: وهي لفظ يدلّ على المنع.
المسجد/البيت، البلدة (مكّة)، المشعر، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا". التوبة: 28.

* [المبارك]: وهو لفظ يدلّ على العلوّ والكثرة والعظمة.
البيت "الكعبة"، المسجد الأقصى، الأرض (مشارقها ومغاربها)، الشجرة.

والحقيقة أن هذا التخصيص بالقدسية والحُرمة من شأنه أن يولّد الصراع بين أتباع الشرائع؟

لقد تمّ حسم الصراع بين المسلمين والوثنين العرب فيما يتعلّق بالبيت/الكعبة/ ومكّة، لصالح المسلمين ولا ينازعهم فيها أحد من يهود ولا نصارى. خلا بعض الخلافات حول توسعة الكعبة في عدة عصور انتهت بمقولة الإمام مالك على تركها على ما كانت عليه زمن الرسول عليه السلام حتى لا تكون "لعبة الملوك". ومعلوم أن الزبيريين قد وسّعوا الكعبة وقد هدم هذا الجزء الحجّاج بن يوسف الثقفي.
لذا فبخصوص مكّة والبيت والكعبة لا نزاع ولا صراع بين المسلمين واليهود أو النصارى.

لكن فيما يخصّ قدسية وبركة الأرض التي باركنا فيها للعالمين وقلبها فلسطين. فقد تم تأجيج الصراع بين أتباع الديانة الثلاثة (يهود، نصارى، مسلمين). وذلك برأيي سبب سوء الفهم عند أتباع الديانة اليهود والمسلمين وحتى النصارى.

وسأبدأ بالنصارى والإشكال ناجم من استسلامهم الأعمى للكنيسة، لكن لو عادوا إلى نصوصهم لوجدوا بوضوح أن السيّد المسيح حينما قال سيأتي يوم تعبدون الله تعالى في أي مكان، وهو مصداق حديث الرسول النبي محمّد عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".
نصّ قول المسيح عليه السلام: "يَا امْرَأَةُ -سامرية-، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ (السامرة)، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ (القدس) تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ.لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. ((وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا". يوحنا: 4: 21-24.

لذا فعلى النصارى أن يفهموا نصّ كلام المسيح عليه السلام، فالله تعالى روح، ولا مكان مقدّس مشروط لقبول الصلاة، وهذا يتقاطع كليًا مع قوله تعالى: " وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ". البقرة: 115.

بقي اليهود الذين هم أصلاً رفضوا رسالة وتعاليم المسيح عيسى عليه السلام، وأغرقوا في المادّيّة، فما يزالون متعلّقين بالمكان (الهيكل). وهذا إشكال اليهود الأزلي وعقليتهم المنغلقة.

الآن مشكلة المسلمين هي في الصراع على ذات البقعة مع اليهود في القدس، وهنا يثور التساؤل المشروع هل زيارة نبيٍ لبقعة أقصد رحلة الإسراء (على خلاف بين العلماء كونها بالروح أو بالجسد) تجعل تلكم البقعة حصرًا لأتباعه؟؟
بالتأكيد لا يمكن أن يجعلها حصرًا للمسلمين دون غيرهم.
وما فعله عمر بن الخطانبيب لما زار بيت المقدس/إيلياء، حينما حلّ وقت الصلاة حيث صلىّ في مكان فارغ، وهو تطبيق عملي لمقولة الرسول عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".

لكن الإشكال فيما بعد عمر بن الخطاب، حيث تمّ توظيف مطلع سورة الإسراء المعروفة، وفعل عمر بن الخطاب لتأسيس بناء في المكان الذي صلّى به زمن الأمويين، وواقع التاريخ يُخبرنا أن النصارى في ذلك الوقت ينظرون إلى هذا المكان بأنه مقدس مثل نظرة اليهود بالرغم من تعاليم المسيح عليه السلام، ويرون في المسلمين أنهم محتلون لهذا المكان بل يُنجّسونه بعباداتهم!!

فالإشكال أن الأمويين اتخذوا من بعض آيات القرآن الكريم ومن فعل الفاروق مرتكزًا وحجةً لمواجهة الحضارة النصرانية حيث البناء الفاخر لقبة الصخرة، ومن حيث خلع البيْعات من الحُجّاج حينما يزورون المنطقة (بناء على رواية: "لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد")، حيث يخلعون مبايعتهم للزبيريين (الصراع بين الزبيريين والأمويين)، ليعطوا البيْعة للخليفة الأموي، وهذا لا يمكن استبعاده أبدًا ومطلقًا.

ومع مرور الوقت استقر الأمر للأمويين، وترسّخ في أذهان المسلمين أن الرقعة هاته مخصصة للمسلمين وحدهم، وتفاخروا ببناء قبة الصخرة التي رأوا فيها عجيبة من العجائب. كما تمّ ترسيخ بعض الخرافات من مثل أن الصخرة طارت إلى السماء فتعلقت لما عُرج بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأيضًا خرافة الحلقة التي في الجدار وتلك التي ربط فيها محمَدًا عليه الصلاة والسلام البراق، وسُمّي الحائط بالبراق. (ملحوظة حائط البراق الآن في يد اليهود) وقد كانت ثورة خاصة به سُمّيت [ثورة البراق].

كل هذا التوظيف لبعض الآيات وفعل الفاروق مع قليل من العجائب "الخرافات" ترسّخ لدى جموع المسلمين أن هذا المكان للمسلمين فقط. وصارت القدس [عقيدة.. وآية في كتاب الله] كما في كتابات كثير من قيادات الحركة "الإسلامية". ويتمّ عمليًا منع المستوطنين من باحات المسجد الأقصا إذا ما قاموا بتمتمات دينية أثناء دخولهم!! ليواجه المسلمون في هذه الأثناء إلى تصعيد إسرائيلي في منع المصلين في الأقصى.

والذي أراه أن القرآن الكريم وأن أضفى قدسية على مكان ما، فهذا لا يعني أن المكان محصور لفئة دون فئة، وإن جادل يهودي عليم بالقرآن بقوله تعالى: " يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ". المائدة: 21. فسأقول له رُويْدك فالأرض المقدسة لكم ولسكّانها "الغرباء" كما في توراتكم. فانظر: "وَيَكُونُ أَنَّكُمْ تَقْسِمُونَهَا بِالْقُرْعَةِ لَكُمْ وَلِلْغُرَبَاءِ الْمُتَغَرِّبِينَ فِي وَسْطِكُمُ الَّذِينَ يَلِدُونَ بَنِينَ فِي وَسْطِكُمْ، فَيَكُونُونَ لَكُمْ كَالْوَطَنِيِّينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. يُقَاسِمُونَكُمُ الْمِيرَاثَ فِي وَسْطِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ. وَيَكُونُ أَنَّهُ فِي السِّبْطِ الَّذِي فِيهِ يَتَغَرَّبُ غَرِيبٌ هُنَاكَ تُعْطُونَهُ مِيرَاثَهُ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ".حزقيال: 47: 22-24.

وبناءً على نظرتي لطبيعة وتركيبة كلا الذهنيّتين العربية المسلمة المؤسَّسة على الفكر الأموي، واليهودية القائمة على المادّية فلا يمكن للعقلاء والمفكّرين مهما كان تأثيرهم من تغيير الواقع البائس، لأنها ببساطة "حتمية" لا بدّ منها، فالمنغلق لا يصدّه إلا منغلق مثله. وما على العقلاء أن يخفّفوا من آثار هذا الصراع. فالحاسم فيه هو القوة والمكر وهو في جانب اليهود ومن شايَعهم الآن.

أما بخصوص قوله تعالى: "وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا* عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا". الإسراء: 4-8.

فإن فساد بني إسرائيل -الذي يعلمه الله تعالى في علمه السابق- سيكون ظلمًا وإقصاءً للآخرين في أعلى مستوياته، وهذا وفق رؤيتي بدأ في هذا العصر (خلاف بين العلماء على آراء بين حصول الإفسادين، أو أحدهما، أو عدم حصولهما)، فالعباد الذين هم [عباد لله] لا يحاربون [بني إسرائيل] لاختلاف عقَدي ديني، بل يقاتلونهم في كل المستويات "كافة" لكونهم مفسدين ظلمة. لذا جاء التعبير عنهم بأنهم [عباد لله] وهم العقلاء والأحرار في كل العالم.

وحينئذِ ستكون البقعة للجميع وفق مبدأ العدالة، ليست حصرًا لأحد لا مسلمين، ولا يهود ولا نصارى.

فهل يعقلون؟؟؟

بوركتم جميعًا
ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق