الأربعاء، 30 أبريل 2014

مفهوم الابتلاء

ابتلاء [الإنسان] بالشر والخير

لا يقتصر الابتلاء في مجال الشر، بل يتجاوزه ويدخل في مجال الخير. ولما كانت حياة [الإنسان] يتخللها الخيرات والشرور، فتكون الحياة الدنيا ابتلاء في ابتلاء. فكما أنّ كل نفسٍ ذائقة الموت فالحياة كلها ابتلاءات. وهذا من القوانين الحاكمة في هذه الحياة الدنيا. قال تعالى
 "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ". ﴿الأنبياء: ٣٥﴾
"فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ". ﴿الفجر: ١٥﴾
 "وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ". ﴿الفجر: ١٦﴾
 "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".     ﴿الأعراف: ١٦٨﴾

أما مجال الشر: الخوف، والجوع، ونقص من الأموال والأنفس وفي الثمرات: قال تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". ﴿البقرة: ١٥٥﴾.

أما مجال الخير: الأموال، والأولاد، الأزواج، وسائر النعم والملذّات قال تعالى:
"وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ". ﴿الأنفال: ٢٨﴾
"إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّـهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ". ﴿التغابن: ١٥﴾
"وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ".
  ﴿طه: ١٣١﴾


 تقدّم النظرية القرآنية أن [الشيطان] العدو المبين يبتلي ويفتن [الإنسان]، كما أن [الخالق] تعالى يبتليه ويفتنه.
أما ابتلاء [الخالق] للـ [الإنسان] قال تعالى:
"أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ". ﴿العنكبوت: ٢﴾
"وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". ﴿العنكبوت: ٣﴾
"وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴿الفرقان: ٢٠﴾.

أما ابتلاء [الشيطان] قال تعالى:
"يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ". ﴿الأعراف: ٢٧﴾
"لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ". ﴿الحج: ٥٣﴾

من السنن سُنّة الابتلاء بالخير أو بالشر:
فكما أن التفاوت بين [المخلوقين] سُنّة من السنن فإن الابتلاء هو سنّة من السنن الحاكمة لهذه الحياة الدنيا قال تعالى:
"وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". ﴿المائدة: ٤٨﴾
"وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ". ﴿الأنعام: ١٦٥﴾
"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّ‌اءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّ‌سُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ‌ اللَّـهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ‌ اللَّـهِ قَرِ‌يبٌ". ﴿البقرة: ٢١٤﴾
"أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ". ﴿التوبة: ١٢٦﴾

صور الابتلاء:
  1. ابتلاء [الخالق] تعالى خلقَه، وابتلاء [الشيطان] عبادَ [الخالق] تعالى.
  2. ابتلاء الأنبياء والأمم: ابتلاء الله تعالى الناس فيما آتاهم، ابتلاء الله تعالى إبراهيم لكلمات فأتمهنّ، ابتلاء اليهود بالسبت. إبراهيم وذبح ابنه عليهما السلام، سليمان عليه السلام وإحضار قصر ملكة سبأ، والجسد على كرسيه، داود عليه السلام وحكاية 99 نعجة، موسى عليه السلام فتناك فتونًا.
  3. ابتلاء بعضُ الناس بعضهم: ابتلاء الجيش بنهر.
  4. الابتلاء بالمعنى الحسن: ابتلاء اليتامى لمعرفة درجة الرشد حتى يُعطوا أموالهم.
  5. ابتلاء الكفار للمؤمنين: ابتلاء قوم موسى تذبيح الأولاد واستحياء النساء، ابتلاء المسلمين يوم الأحزاب، المعارك ومواطن القتال والجهاد مع الكافرين، ابتلاء في المال والأنفس وسماع الأذى من أهل الكتاب والذين أشركوا.
  6. ابتلاء المؤمنين للكفار: "رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". الممتحنة: 5.


اتجاهات [الإنسان] حيال الابتلاء والفتنة:
1-   الذي يبحث عن المصالح دون المبادئ:
"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ". ﴿الحج: ١١﴾
2- الكاذب المبالغ:
"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّـهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّـهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ". ﴿العنكبوت: ١٠﴾.
3- الصبر بمعنى التفكير في الخروج من الأزمة:
"وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ". الفرقان: 20.

الفتنة في الآخرة هي النار:
  • "يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ". ﴿الذاريات: ١٣﴾
  • "ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ". ﴿الذاريات: ١٤﴾
  • "أَذَٰلِكَ خَيْرٌ‌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَ‌ةُ الزَّقُّومِ؟ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ". ﴿الصافات: 62-63﴾
  • "وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا". ﴿المدثر: ٣١﴾


أخيرًا فإن المتدبر في القرآن الكريم يجد أن الابتلاء يدخل في مجال الشر والخير على حدِّ سواء، وأن هذه الحياة الدنيا تحكمها سُنن لا تتبدّل ولا تتحوّل، فكما أن الموت محتوم على كل [مخلوق] فإن الابتلاء متعلّق به سواء في حياته أو بموت أعزائه، سواء بالخيرات أو المضرّات، ويجد المتأمّل لآيات القرآن الكريم أن [الخالق] تعالى يفتن ويبتلي [الإنسان] كلهم، يبتلي الأنبياء والمؤمنين والكافرين، يبتلي جميع الناس وهذا من لوازم السنن. ومما يقدّمه القرآن الكريم أن العدو المبين للـ [الإنسان] وهو [الشيطان] له طاقة على أن يفتن و أن يبتلي، وقد حذّر [الخالق] تعالى من فتنته. أما ابتلاء [الخالق] تعالى للـ[إنسان] في حال الخيرات فهو اختباره في كيفية توظيفه هذه الخيرات هل سيصرفها فيما ينفع الإنسانية، أم يعمل على احتكارها أو توظيفها في الظلم والاستبداد.
وابتلاؤه تعالى للـ[إنسان] في حال المضرات، فهو لصقل الإنسان وتهيئته للمقام المنوط به. أو معرفة مكنون صدر المخلوق، بالرغم من علمه السابق به. فـ [الخالق] تعالى يعلم مسبقًا أيهم أحسن عملاً. لكنه تعالى ترك للمخلوق حرّيّة في إدارة خياراته، فإما أن يوظف الخيرات والنعم فيما يفيد البشرية، أو يوظفها فيما يهدم البشرية ويؤسس للظلم والاستبداد، وإما أن يصبر مع العمل بجهد في رفع الضرر عن نفسه وأمته في حال المضرات والشدائد، لا أن يستسلم للألم والجوع. فـ [الخالق] تعالى يريد من هذا [الإنسان] أن يكون منسجمًا في كل حالاته في الشدة والرخاء، وأن يكون مسابقًا وداعمًا للخيرات. أما [الشيطان] يريد من [الإنسان] أن يكون متناقضًا فحاله في الرخاء غير حاله في الشدة، وأن يحتكر العلم والخير عن غيره.
ومن صور الفتنة في عالم [الحياة الآخرة] النار التي تفتن الكافرين والظالمين.

ملحوظات:
"وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". ﴿العنكبوت: ٣﴾

"وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ". ﴿العنكبوت: ١١﴾
ابتلاء في الخير ==> تسابق في الخيرات أحسن عملاً
ابتلاء في الشر ==> إعادة النظر والتفكّر -مفهوم الصبر- للخروج من الأزمة، وصقل الشخصية.
بوركتم جميعًا




لماذا خلق [الخالق] تعالى الإنسان؟؟

تساؤل لطالما طرحه [الإنسان] عبر الأزمنة، وهو لماذا خلقنا [الخالق] تعالى؟
وعند التأمل نجد أن الاحتمالات الممكنة للإجابة على هذا التساؤل هي كالآتي:
1.     تسليةً.
2.     تكثير عدد وتنويع جنس.
3.     التسبيح والتعظيم.
4.     عبثًا.
5.     للعبادة بمفهوم الصلاة والصوم وسائر التكاليف الشرعية.
6.     للبرهنة والإثبات على علم [الخالق] المطلق على سائر خلقه وأهمهم [الملائكة].


 إن النقاط من 1-4 بحسب النظرية القرآنية مستبعدة تمامًا لانتفاء العبثية والعدمية عن [الخالق]، أما النقطة 5 فلا تشكل السبب الرئيس من خلق [الإنسان]، فلم يبقَ إلا النقطة رقم 6.

عند تدبر آيات القرآن الكريم فإننا نلحظ نقاشًا حول خلق جديد (بشر) سيكون [خليفة في الأرض] تمّ هذا النقاش حينما قرّر [الخالق] تعالى الاستعداد لمشروع خلقي جديد، وأراد أن يستمزج آراء [الملائكة] ولربما بعضهم (المقربين)، إذ لفظ العموم لا يفيد بالضرورة استغراق جميع اسم الجنس كما هو معلوم من النظرية القرآنية. فأجاب هذا الفريق من [الملائكة] بالسؤال الاستنكاري. وهاكم الحوار كالآتي:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. 
قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟!
قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.  البقرة: 30.
فلنحظ أن هذا الفريق من الملائكة علّل استنكاره واعتراضه للخلق الجديد بأنه يسبّحه [الخالق] ويقدّسه. وكوْن [المخلوق] الجديد مفسد في الأرض سفّاك للدماء!

وفي هذا الجواب ملحوظتان:
الأولى: ذكرٌ لأحب وأفضل طاعة يحبّها [الخالق] تعالى وهي التسبيح بحمده والتقديس له. فلو كان ما هنالك أفضل لذكروها.
الثانية: التنبؤ بمستقبل [المخلوق] الجديد على أنه مفسد وسفّاك للدماء. فكيف لهم أن يعلموا بهذا؟!

لربما [الملائكة] رأت في نفسها أنها [الخلق] المميز فقد سبق [الإنسان] في الأرض [خلق] مفسد وسفّاك للدماء، فقاست الجديد على القديم. أو لربما بنوا حكمهم على ما ألفوه من سلوك هذا [الخلق] السابق إذ تمّ اصطفاء بعضهم ليكونوا خلفاء الأرض وآدم أولهم، فظنوا أن الاصطفاء غير جدير بهم. على اعتبار أن آدم عليه السلام من ذرية أو على هيئة [المخلوق] السابق له. فأجابوا على أساس قاعدة الاستصحاب، أي أن هذا [المخلوق] ملازم للإفساد وسفك الدماء، فلا حاجة للـ [الخالق] تعالى بهم، فـ[الملائكة] أوْلى بالخلافة منهم.
وفي جوابهم ذاك استبقاء للأمر وقياس مع الفارق، فهم إن علموا شيئًا فقد غابت عنهم أشياء!

وبرأيي أن هذا الفريق من [الملائكة] قد انبهر بعلمه فقدّم نفسه على [المخلوق] الجديد. ولما كان [الخالق] تعالى عالم بما كان وبما سيكون، علم بأن هذا الفريق من[الملائكة] قد تعدّى حدوده من خلال ((العلم)) بتوهمّهم أنهم قاربوا علم [الخالق] تعالى. فقد أراد سبحانه وتعالى أن يختبرهم بـ [مخلوق] جديد.

ومما يجدر ملاحظته أن الإنباء بجعل [المخلوق] الجديد خليفة في الأرض سبقه إعلان بخلقه فلم يُسجّل أي اعتراض أو استفسار وكأن الأمر لا يؤثر في مجال الملائكة، فـ[الخالق] تعالى يخلق ما يشاء. قال تعالى: "وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ". ﴿الحجر: ٢٨﴾،  "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ". ﴿ص: ٧١﴾.


لذا فيمكن القول إن خلق [المخلوق] الجديد كان اختبارًا لهذا الفريق من الملائكة. فكان أن ما اهتموا لخبر خلقه ابتداءً، ثم لما قرر [الخالق] تعالى جعله (خليفة) بدأوا يعترضون ويقدّمون الحجج والخدمات على حدّ سواء.
وكان جواب [الخالق] تعالى لهم: "قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".

وما أن خلق [الخالق] تعالى [المخلوق] الجديد حتى كانوا جميعًا تحت اختيار جديد وهو السجود بمعنى تكريم هذا [المخلوق].
قال تعالى

"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ". ﴿الحجر: ٢٩﴾
"فإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ". ﴿ص: ٧٢﴾

"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ". ﴿البقرة: ٣٤﴾
"وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ". ﴿الأعراف: ١١﴾
"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا". ﴿الإسراء: ٦١﴾
"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا". ﴿الكهف: ٥٠﴾
"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ". ﴿طه: ١١٦﴾

وعند التدبر في الآيات الكريمات نجد أن الأمر بالسجود كان لحظة نفخ الروح في هذا [المخلوق]، والذي هو (جنس إنساني)، لكن الخطاب بالأمر بالسجود كان موجه نحو واحد منهم (آدم) فهو سيّدهم اصطفاه [الخالق] على علمه، وتم السجود له من قبل [الملائكة] باستثناء [إبليس]، إذ هو واحد منهم بحسب النظرية.

وهنا نؤكد بأن الفريق الذي اعترض على [المخلوق] الجديد كان أحدهم وأشدهم [إبليس]. وهو الوحيد الذي رفض وأبى استكبارًا السجود لـ[آدم] عليه السلام. وبرّر فعلته بما لا يليق اعتمادًا على قياس باطل.

ويأتي الاختبار الثاني لذا الفريق من [الملائكة]، فبعد إصدار حكم الطرد على [إبليس] قال تعالى: 

"وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
فَقَالَ: أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 
 قَالُوا: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ". البقرة: 31-32.        
ونلحظ  في الآيات الكريمات ثلاثة أمور:
الأول: أن مجال الاختبار كان في (العِلم) وهو ما ظنّت [الملائكة] أنهم امتلكوه أو قاربوا حقيقته.
الثاني: الاعتراف بأن (العِلم) محكوم بما يتيحُه [الخالق] لهم.
الثالث: أنهم صدقوا في طاعتهم باستفتاح جوابهم بقولهم (سبحانك).


وعليه فإن نتائج الاختبار سقوط [إبليس] من مقام المقربين إلى المطرودين. لتبدأ حلقة جديدة من الصراع والتدافع بين الحق والباطل.
ومن النتائج اعتراف [الملائكة] بمحدودية علمهم وإثبات طاعتهم للـ[الخالق] تعالى.

وأخيرًا فإن [الخلق] الجديد إنما كان في المقام الأول محلّ اختبار للـ[ملائكة]، ومحور صراع [آدم] وذريته مع من فشل منهم وهو [الشيطان][إبليس] وذريته.

وعليه يكون مفهوم (العبادة) وفق النظرية القرآنية في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". ﴿الذاريات: ٥٦﴾ غير متوقف على التكاليف الشرعية، بل هو الانسجام مع منهج [الخالق] تعالى، وعدم اتباع منهج [الشيطان]. والحفاظ على مقام [الإنسان] وعدم التردّي إلى [الأنعام]. إنه مفهوم "الموازنة" و"المفاصلة".

بوركتم جميعًا




الأحد، 27 أبريل 2014

تحليل سورة "العاديات"

تحليل سورة العاديات ..الغزو 

(1)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا 
 فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا 
 فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا
 (2)
 فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا 
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا 
(3)
إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ      (جذر "ك ن د" فقط ورد هنا).
وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ 
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ      =("فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ                                          بِالْحِجَابِ").﴿ص: ٣٢﴾
 (4)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ 
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ 
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ 



المقطع الأول:
محور السورة هو [الإنسان الغازي الظالم]، وتتطرّق إلى الحديث عن التجارة والارتزاق من خلال الإغارة بالخيول على مضارب القبائل وخيَمهم. فالارتزاق بطريق الإغارة يتطلب خيولاً قوية، سريعة ففي الآيات وصف لنفسها كناية عن سرعتها ونشاطها، ووصف لحوافرها كناية عن صلابتها وقوتها في دكّ الأرض، ووصف لزمان الإغارة. وهو الصبح.






المقطع الثاني:
إن المقصود من عمليات الإغارة التكثّر بما ليس عند الغازين، ففي السورة تصوير لمشهد الغزو حيث تبدأ الإغارة بتجمّع الخيول الغزية القوية السريعة، التي تؤدي إلى جعل الخيام أعلاها أسفلها، وقد تؤدي ببعض المُغار عليهم أو المغيرين إلى القتل والدفن. ثم بعد ذلك يتم توزيع الغنائم بين الجمع المغيرين. فهذا النوع من الكسب فيه مخاطرة كبيرة وفي نفس الوقت فيه مكاسب هائلة. وقد كان  بعض العرب يرتزق بهذا اللون من الارتزاق.

 


المقطع الثالث:
هنا يظهر الخطاب جليًا وهو [الإنسان] الذي تلبّس بهذا اللون من الارتزاق. فبالرغم من أن الإنسان هذا يعلم أنه عمله إجرام واكتساب غير مشروع، لكنه يقوم بذلك.!! "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ". القيامة: 14.

فالخيل محببة إلى الرجل الصحرواي التي ينبغي أن تخدمه في أعماله الشريفة، إلا أنه يستغل سرعتها ومهاراتاها في الغزو والاكتساب غير المشروع. وعليه فقِسْ. فالآية من باب ضرب المثل.
فالإنسان الغازي المعاصر يستغل التكنولوجيا والتطور العلمي في سبيل الغزو واستنزاف خيرات الشعوب.




المقطع الرابع والأخير:
وهنا قمة البلاغة..فكما أن هذا [الإنسان المغير] الذي يبعثر خيام الناس وبيوتهم الآمنة، فهلا يعلم أنه يومًا ما سيُبعثر عظمه في القبر؟؟ وأنه كما يسرق أموال الناس غيلةَ ويكتنز بها سرقةً ستجمع أعماله يوم القيامة!!

وأخيرًا يقول تعالى مقرّرًا: "إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ".أي أن الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، والمراد أنه يجازيهم على كفرهم في ذلك.

إن السورة الكريمة تجسّد صورة  من أنماط [الإنسان] الذي يستخدم الأدوات في سبيل الشرّ والاعتداء مع أنه يعلم في قرارة نفسه أنه غير منسجم وخارج عن نطاق العقل السويّ حيث ناقض -تصميمه الداخلي- أو البرنامج الذي ركّبه عليه [الخالق]، والسبب الباعث على هذا هو شهوة "الاكتساب" السريع، فاستعان بوسيلة مشروعة لغاية غير مشروعة فيها إيذاء للآخرين، في سبيل تحقيق شهوة الكسب الهائل السريع، هذا النوع من [الإنسان] الذي لم يعدّ في حقيقة الأمر إنسانًا بل صار وحشًا، فالآيات الكريمات توصف قطاع من قطاعات الحياة في البيئة الصحرواية، كمثال للمخاطب آنذاك ويبقى الأمثلة عليه مفتوحة مع تقدّم الزمان، وقد جاءت الآيات الكريمات لتقرّر قضية البعث، والمحاسبة يوم الحساب،ولما كان هذا النمط من الكسب فيه ظلم للآخرين، فإن الظالم لن يهرب من المسئولية في النهاية، فله يوم يحاسب عليه، لذا فـ[الخالق] (الربّ) خبير بهم يجازيهم بأعمالهم يوم القيامة.

 بوركتم جميعًا




 ملحق ببعض معاني الكلمات الواردة في السورة.

* والنّقَّاع: الرَّجُل يَتكثَّر بما ليس عنده. مقاييس اللغة.
* والنَّقْعُ الماءُ الناقِعُ أَي المُجْتَمِعُ. لسان العرب.
* أَنْقَعْتُ الرجُلَ إِذا ضَرَبْتَ أَنْفَه بإِصْبَعِكَ، وأَنْقَعْتُ الميِّتَ إِذا دَفَنْته، وأَنْقَعْتُ البَيْتَ إِذا زَخْرَفْتَه، وأَنْقَعْتُ الجاريةَ إِذا افْتَرَعْتَها، وأَنْقَعْتُ البيت إِذا جَعَلْتَ أَعلاه أَسفلَه. لسان العرب.
* وامرأَة كُنُدٌ وكَنُود: كَفور للمواصل. لسان العرب.