تساؤل لطالما طرحه [الإنسان] عبر الأزمنة، وهو لماذا خلقنا [الخالق]
تعالى؟
وعند
التأمل نجد أن الاحتمالات الممكنة للإجابة على هذا التساؤل هي كالآتي:
1. تسليةً.
2. تكثير
عدد وتنويع جنس.
3. التسبيح
والتعظيم.
4. عبثًا.
5. للعبادة
بمفهوم الصلاة والصوم وسائر التكاليف الشرعية.
6. للبرهنة
والإثبات على علم [الخالق] المطلق على سائر خلقه وأهمهم [الملائكة].
إن النقاط من 1-4 بحسب النظرية القرآنية مستبعدة
تمامًا لانتفاء العبثية والعدمية عن [الخالق]، أما النقطة 5 فلا تشكل السبب الرئيس
من خلق [الإنسان]، فلم يبقَ إلا النقطة رقم 6.
عند
تدبر آيات القرآن الكريم فإننا نلحظ نقاشًا حول خلق جديد (بشر) سيكون [خليفة في
الأرض] تمّ هذا النقاش حينما قرّر [الخالق] تعالى الاستعداد لمشروع خلقي جديد،
وأراد أن يستمزج آراء [الملائكة] ولربما بعضهم (المقربين)، إذ لفظ العموم لا يفيد
بالضرورة استغراق جميع اسم الجنس كما هو معلوم من النظرية القرآنية. فأجاب هذا
الفريق من [الملائكة] بالسؤال الاستنكاري. وهاكم الحوار كالآتي:
وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟!
قَالَ:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. البقرة: 30.
فلنحظ
أن هذا الفريق من الملائكة علّل استنكاره واعتراضه للخلق الجديد بأنه يسبّحه
[الخالق] ويقدّسه. وكوْن [المخلوق] الجديد مفسد في الأرض سفّاك للدماء!
وفي
هذا الجواب ملحوظتان:
الأولى:
ذكرٌ لأحب وأفضل طاعة يحبّها [الخالق] تعالى وهي التسبيح بحمده والتقديس له. فلو
كان ما هنالك أفضل لذكروها.
الثانية:
التنبؤ بمستقبل [المخلوق] الجديد على أنه مفسد وسفّاك للدماء. فكيف لهم أن يعلموا بهذا؟!
لربما
[الملائكة] رأت في نفسها أنها [الخلق] المميز فقد سبق [الإنسان] في الأرض [خلق]
مفسد وسفّاك للدماء، فقاست الجديد على القديم. أو لربما بنوا حكمهم على ما ألفوه
من سلوك هذا [الخلق] السابق إذ تمّ اصطفاء بعضهم ليكونوا خلفاء الأرض وآدم أولهم،
فظنوا أن الاصطفاء غير جدير بهم. على اعتبار أن آدم عليه السلام من ذرية أو على
هيئة [المخلوق] السابق له. فأجابوا على أساس قاعدة الاستصحاب، أي أن هذا [المخلوق]
ملازم للإفساد وسفك الدماء، فلا حاجة للـ [الخالق] تعالى بهم، فـ[الملائكة] أوْلى
بالخلافة منهم.
وفي
جوابهم ذاك استبقاء للأمر وقياس مع الفارق، فهم إن علموا شيئًا فقد غابت عنهم
أشياء!
وبرأيي
أن هذا الفريق من [الملائكة] قد انبهر بعلمه فقدّم نفسه على [المخلوق] الجديد.
ولما كان [الخالق] تعالى عالم بما كان وبما سيكون، علم بأن هذا الفريق من[الملائكة] قد
تعدّى حدوده من خلال ((العلم)) بتوهمّهم أنهم قاربوا علم [الخالق] تعالى. فقد أراد
سبحانه وتعالى أن يختبرهم بـ [مخلوق] جديد.
ومما
يجدر ملاحظته أن الإنباء بجعل [المخلوق] الجديد خليفة في الأرض سبقه إعلان بخلقه
فلم يُسجّل أي اعتراض أو استفسار وكأن الأمر لا يؤثر في مجال الملائكة، فـ[الخالق]
تعالى يخلق ما يشاء. قال تعالى: "وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ". ﴿الحجر: ٢٨﴾، "إِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ". ﴿ص: ٧١﴾.
لذا
فيمكن القول إن خلق [المخلوق] الجديد كان اختبارًا لهذا الفريق من الملائكة. فكان أن ما اهتموا لخبر خلقه
ابتداءً، ثم لما قرر [الخالق] تعالى جعله (خليفة) بدأوا يعترضون ويقدّمون الحجج
والخدمات على حدّ سواء.
وكان
جواب [الخالق] تعالى لهم: "قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ".
وما
أن خلق [الخالق] تعالى [المخلوق] الجديد حتى كانوا جميعًا تحت اختيار جديد وهو
السجود بمعنى تكريم هذا [المخلوق].
قال
تعالى:
"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ". ﴿الحجر: ٢٩﴾
"فإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ". ﴿ص: ٧٢﴾
"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ". ﴿البقرة: ٣٤﴾
"وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ". ﴿الأعراف: ١١﴾
"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا". ﴿الإسراء: ٦١﴾
"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا". ﴿الكهف: ٥٠﴾
"وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ". ﴿طه: ١١٦﴾
وعند
التدبر في الآيات الكريمات نجد أن الأمر بالسجود كان لحظة نفخ الروح في هذا
[المخلوق]، والذي هو (جنس إنساني)، لكن الخطاب بالأمر بالسجود كان موجه نحو واحد
منهم (آدم) فهو سيّدهم اصطفاه [الخالق] على علمه، وتم السجود له من قبل [الملائكة]
باستثناء [إبليس]، إذ هو واحد منهم بحسب النظرية.
وهنا
نؤكد بأن الفريق الذي اعترض على [المخلوق] الجديد كان أحدهم وأشدهم [إبليس]. وهو
الوحيد الذي رفض وأبى استكبارًا السجود لـ[آدم] عليه السلام. وبرّر فعلته بما لا
يليق اعتمادًا على قياس باطل.
ويأتي
الاختبار الثاني لذا الفريق من [الملائكة]، فبعد إصدار حكم الطرد على [إبليس] قال
تعالى:
"وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
فَقَالَ: أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ
قَالُوا: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ
لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
البقرة: 31-32.
ونلحظ
في الآيات الكريمات ثلاثة أمور:
الأول:
أن مجال الاختبار كان في (العِلم) وهو ما ظنّت [الملائكة] أنهم امتلكوه أو قاربوا
حقيقته.
الثاني:
الاعتراف بأن (العِلم) محكوم بما يتيحُه [الخالق] لهم.
الثالث:
أنهم صدقوا في طاعتهم باستفتاح جوابهم بقولهم (سبحانك).
وعليه
فإن نتائج الاختبار سقوط [إبليس] من مقام المقربين إلى المطرودين. لتبدأ حلقة
جديدة من الصراع والتدافع بين الحق والباطل.
ومن
النتائج اعتراف [الملائكة] بمحدودية علمهم وإثبات طاعتهم للـ[الخالق] تعالى.
وأخيرًا
فإن [الخلق] الجديد إنما كان في المقام الأول محلّ اختبار للـ[ملائكة]، ومحور صراع
[آدم] وذريته مع من فشل منهم وهو [الشيطان][إبليس] وذريته.
وعليه
يكون مفهوم (العبادة) وفق النظرية القرآنية في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". ﴿الذاريات: ٥٦﴾ غير
متوقف على التكاليف الشرعية، بل هو الانسجام مع منهج [الخالق] تعالى، وعدم اتباع
منهج [الشيطان]. والحفاظ على مقام [الإنسان] وعدم التردّي إلى [الأنعام]. إنه
مفهوم "الموازنة" و"المفاصلة".
بوركتم
جميعًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق