الجمعة، 18 أبريل 2014

جدلية الروح والمادة

جدلية الروح والمادة

قبل الخوض في تلك الجدلية لا بد من معرفة معنى لفظ "العقل" فقد ورد في القرآن الكريم ومشتقاته (49) مرةً، وهو يدّل على "عملية ينتج عنها إعطاء قرار ورأي بعد مقدمات نظر وتدبّر"، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن محلّ هذه العملية هو "القلب" قال تعالى
"
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ ((يَعْقِلُونَ بِهَا)) أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا". ﴿الحج: ٤٦﴾. وقال تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ ((قُلُوبٍ)) أَقْفَالُهَا". ﴿محمد: ٢٤﴾.
وعند التأمّل في القرآن الكريم نجد أن "السمع" (H) -استقبال الأصوات- أداته "الأُذن"، وأن "البصر"(S) أداته "العين"، وهذا طبعًا بحكم الغالب، فهناك الأصمّ بالرغم من وجود "الأذن" والأعمى بالرغم من جمال "عينيه" لكن الخلل يكون في العصب السمعي أو البصري
وأيضًا نجد أن هنالك من الناس –شر الدواب- (كالأنعام) لديهم "السمع" (H)"التكلّم"(T) و"البصر"(S) وروابطها العصبية فعّالة غير أنهم مع ذلك "لا يعقلون" والسبب هو خلل في المسئول عن هذه الروابط كلها وهو "القلب" Mother ، "فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ" ﴿القارعة: ٩﴾، فأي خلل فيه يؤثر في كل من "السمع" و"البصر" و"التكلم". قال تعالى: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّـهِ (الصُّمُّ) (الْبُكْمُ) الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ". ﴿الأنفال: ٢٢﴾، ويقول تعالى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ ((لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا)) وَلَهُمْ أَعْيُنٌ ((لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا)) وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَـٰئِكَ (كَالْأَنْعَامِ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿الأعراف: ١٧٩﴾. وسبب هذا الخلل ناتج عن التنكّر للحقائق والتكبّر عن قبولها –الكفر- قال تعالى: "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً (صُمٌّ) (بُكْمٌ) (عُمْيٌ) فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ". ﴿البقرة: ١٧١﴾.

وقوله تعالى:" لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا". فـ"القرآن الكريم" يجعل "الفقهَ" وهو -العلم بدقائق الأمور- أداته "القلب". وهذا يعني أن هنالك رابط عصبي للقلب. كما أن للعين والأذن رابطًا خاصًا بكل منهما.
وهذا "الرابط القلبي" هو المسئول عن كل تصرفات الإنسان لذا فسوء "البصر" ناتج عن خلل في الرابط القلبي قال تعالى: "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن ((تَعْمَى الْقُلُوبُ)) الَّتِي فِي الصُّدُورِ". ﴿الحج: ٤٦﴾.

وعند تأمل "القرآن الكريم" يضحُ أن "الفؤاد" هو غير "القلب" حيث لا ترادف، بل "الفؤاد" هو "الوعي"، فمن نِعم "الخالق" على "الإنسان" أن حباهُ بنعمة "السمع" و"البصر" "والفواد" يقول تعالى: "وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". ﴿النحل: ٧٨﴾.
ورتب المسئولية على السمع والبصر والفؤاد قال تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا".﴿الإسراء: ٣٦﴾.
وقال تعالى: "وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ". ﴿الأحقاف: ٢٦﴾.
وما أغنت عنهم تلك النّعم ليس لكونهم غير مؤهلين للتعقّل وإلا لما شملهم التكليف، بل لأنهم كانوا يجحدون بآيات "الخالق".

لذا فـ"الإنسان" وهو "الخليفة في الأرض" ميّزه "الخالق" بميزة مزيدة فريدة وهي "الفؤاد" ألا هي "الوعي". إذ "الأنعام" وغيرها من المخلوقات حباها "الخالق" بالسمع والبصر. قال تعالى: " ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ".﴿السجدة: ٩﴾

وإذا كان ينبغي كما أسلفنا أن يكون للـ"قلب" رابطًا فيمكنني القول إن للـ"قلب" رابطان: الأول: هو الرابط "الفسيولوجي"، والذي بتوقفه تنتهي حياة "الإنسان" ويفارق الدنيا، والثاني: وهو الرابط "الروحي" والذي بانعدامه يكون "الإنسان" في حكم الميت يقول تعالى: "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". ﴿الأنعام: ١٢٢﴾.

وبهذا تكون سُنّة "الخالق" في خلق "الإنسان" قائمة على جانبين "مادّي" و"روحي"، ويشكّل منهج القرآن الكريم "كوعاء فكري" التوازن بين الجانب المادي والروحي، الذي يبني الأمة التي تتسق وتنسجم مع سُنن "الخالق" ومنظومته الكونية، وأي إهمال أو إخلال في أحد الجانبيْن فإن عجلة الحضارة وإن تقدّمت ودبّت فيها الحياة فهي حياة "أنعامية".



 بوركتم جميعًا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق